أطفال جنوب لبنان… “ما متت ما شفت مين مات”!


إبراهيم درويش- العربي المستقل

أدسّ بين يديّ كتابا، أحاول الهروب فيه، بعيدا من إنسانيتي، التي استحالت ورَماً، يثقلني، ويثقل عقلي الذي طوّعته على امتداد سنوات، ليتعامل بمرونة مع كم هائل من الآلام والأوجاع، المستوطنة عنوة في حاضرنا، فأراه صلفاً، غارقاً في صمته، مالّاً من الإتّصال والتواصل. أنسحب إنسحابَ ضيفٍ ثقيل، غير مرغوب بزيارته، وأستعيد مقعدي، بين المتابعين والقارئين، والباحثين عن حقيقة أحسد كثيرين لقدرتهم على تجاوزها والقفز فوقها. هي مهارة ربما لم أمتلكها يوما، أو لربما كنت أحيطُ بها، ولكن تكاسلتُ عن تنميتِها وتطويرِها.

على عجل ومن دون أي استعداد نفسي، أرتطم بالواقع ارتطاما موجعا، يسحقني، كآلية عسكرية تعبر متبخترة فوق أجساد أطفال عزّل إلا من الأحلام والرجاء. تمرّ بعنف فوق جسدي، لكنّ سائقها تدرّب جيداً على تهشيم الأضلع من دون قتل ضحيته، فقد أخبرته  القيادة، نقلا عن مراكز الدراسات والأبحاث، أن القتلى يجب أن يقسموا الى صنفين:

_  قتلى موتى، أسلموا الروح وتم اجتثاثهم من الحياة.

_  قتلى أحياء، وطأوا الموت وأحاط بهم، لكن ما أريد لهم أن يفارقوا الحياة.

 القسم الأول هو في خدمة القسم الثاني، الذي يشكل عماد مشروع القتل الممنهج، فهؤلاء يراد لهم أن يشكلوا حقل التجارب لمشروع العدوان، هؤلاء، يراد منهم ان يكونوا “فئران تجارب” مشاريع الدمار والتخريب، هؤلاء يحاصرون بعملية ضخ إعلامي كثيف، وحملات ترهيب وتوهين، وتراهن مراكز الدراسات، على أنهم لا بد، تحت هول ما شاهدوا، وما اختبروا أن يستيكنوا، ويقتنعوا، فيقنعوا محيطهم بقاعدة “ما متت… ما شفت مين مات!”

أحسن العدو إمتلاك العلم وادواته، ولا سيما فيما يتعلّق بالأنظمة الاستخباراتية وأدوات التكنولوجيا، وأحسن قراءة الأنظمة، وفهم تركيبات دول المنطقة، وعمل على تعزيز نقاط الاختلاف وتغذيتها، وتسلل عبر منافذ عدة، تجاهل هادفون ومستهترون سدها، قبل اتساعها،  ولكن في وجه ذلك، لم يعد وحيدا، من يمتلك ادوات المعرفة، ولم تسعفه مراكز الدراسات في فهم، ثوابت الشعوب المتجذرة بالأرض، وبأن المقاومة، ليست سلاحا، وليست استراتيجيا، وليست قرارا، ولا خيارا، بل هي موروث فطري، عصي على المتغيرات الفيزيولوجية، والكيميائية، والاجتماعية، والنفسية، وأن ما بين غزة وجنوب لبنان، أطفال سيكبروا، وسيزدادون تجذرا في هذه الارض، وسيكبر حبهم للحياة، وسيثأرون لأترابهم، ربما لن يحتاجوا الى كل هذا الغضب، فسواقي الدم الطاهر، ووفقا لسياقات الطبيعة التي لم تخلف وعدها يوما، تنذر بربيع تزيّنه شقائق النعمان.