فاطمة الدر _ العربي المستقل
ماذا بعد؟
هل ينتظرنا تطبيع تحت مسمّى “السلام“، أم أننا نهرول نحوه متذرّعين به؟
تحت عنوان “السلام” تبدأ القصص، تُمارَس الضغوط، ويُشرَّع الممنوع. نتعدّى على الأديان، نُصوّب آذاننا نحو الأكاذيب ونُصدّقها، نضع أيدينا على عقولنا قبل عيوننا، والذرائع جاهزة قبل الكلام: “لا نريد حرباً مع إسرائيل“. فهل يجلب السلامُ السلامَ حقًا؟ أم يسير بنا إلىالتهلكة، حيث الحقيقة أوضح من أن تُخفى، وحيث لا رجوع إن قُبلنا بالنار بدلاً من السلام؟
موضوع التطبيع موضوع معلّق يُثار كلما سنحت الفرصة ويطفو على سطح أزمات متتالية أثقلت الوطن وأرهقت أفراده، ودفعتهم إلىالاصطفاف بين مؤيد، ومعارض، ومؤيد خجول، ومعارض منهك. منهك من اللوم الكاذب، من اتهامه بأنه العائق في وجه “السلام“، وكأنالعدوّ لم يكن غازياً، ولم يكن يوماً قاتلَ أطفال وسالبَ وطن!
التطبيع في العالم العربي
التطبيع ليس وليد اللحظة، وما جرى ويجري وسيتكرّر في عالمنا العربي لا يعدو كونه محاولات ممنهجة لبيع الأوطان تحت عبارات تجميليةللبعض ومُخزية للبعض الآخر.
لبنان الآن على خط النار؛ منذ بدء موجة التطبيع العربي بات الضغط لاستكمال المسار واقعًا على كاهله. فهل يخضع؟ أم يصمد؟ هل سيقففي وجه العاصفة أم أنه سيُجرّ إلى وحلها؟
إن عدنا بالذاكرة القريبة وقاربنا الأحداث الإقليمية منها والمحلية، نرى أن موجة التطبيع كانت نتيجة تراكمات وضغوط سياسية واقتصادية أتت تندس إلى الداخل العربي على مراحل، حتى بلغت ذروتها في العام 2020، حين شهدنا توقيع “اتفاقيات أبراهام” التي فتحت الباب أمام دول عربية عدّة كالإمارات، البحرين، السودان، والمغرب لإقامة علاقات معلنة مع الاحتلال وبلورت المشهد الجديد الذي تطمح له إسرائيل.
وها نحن اليوم وصلنا ولم يعد الترويج للتطبيع شاذًا أو مثيرًا للعار كما كان — وكما يجب أن يبقى. لم تعد الحملات الدعائية تكتفي باستهداف الشعوب لغرز فكرة القبول، بل باتت تُصاغ ضمن روايات سياسية واقتصادية وإعلامية تُقدَّم كحقائق حتمية لا مفر منها.
ووسط الأزمات المعيشية المتلاحقة، وفي ظل غياب أي اعتماد ذاتي أو اكتفاء وطني، تصبح هشاشتنا الاقتصادية أرضًا خصبة لتمرير خطاب التنازل على أنه “ضرورة بقاء“، لا خيانة مبدأ.
نُواجه في كل خطاب أو ترويج يحمل نَفَساً تطبيعيّاً، تهديدات خفيّة تُغلَّف بشعارات إنسانية وشعبية، مثل “الإصلاحات الاقتصادية” و“المعونات الخارجية“. حتى أبسط أشكال الدعم باتت مرتبطة بشروط غير مُعلنة، يتصدّرها: *”التطبيع كخيار استراتيجي“*.
وأخر هذه التهديدات نراه حاضراً في ملف إعادة الاعمار والضغط السياسي الذي تراءى أمامنا بعد الحرب الأخيرة التي دمرت جنوب لبنان، وكيف تسعى القوى السياسية بالضغط على حكومة لبنان ومنع المعونات الدولية عنه إلا إذا نفذ مطالبها.
يُسوّق القبول بهذا الخيار وكأنه خشبة الخلاص من الانهيار، وكأن النجاة تكمن فيه، لكنه في الحقيقة ليس سوى *نجاة زائفة من اليابسة إلى بحر فرعون* — قارب غارق لا يُنقذ أحدًا.
الإعلام اللبناني والتطبيع
تختلف الطرق لكنّ الترويج واحد؛ من الضغط السياسي المباشر، إلى التهديد، إلى بثّ رسائل نفسية مُموّهة، تُظهر التطبيع وكأنه مشهد اعتيادي، لا بدّ لنا من التكيّف معه.
أخطر تلك الأدوات هو الإعلام، ومنصّات التواصل الاجتماعي، وكل ما يُخاطب اللاوعي الجماعي؛ يُشكّل القناعات، يُروّج للأفكار، ويُمرّرها حتى يُصبح المرفوض مألوفاً، بل مطلوباً.
في خضمّ هذا التحوّل، لعب الإعلام دورًا محوريًا في تمرير هذه التغييرات والترويج لها، سواء عبر التغطيات المنمّقة أو الخطابات الموجّهة. هذا التحوّل يعيد فتح النقاش حول دور الإعلام اللبناني في هذه المرحلة، ومدى قدرته على الصمود أو الانجراف في التيار ذاته.
شهد المشهد الإعلامي في لبنان تحوّلاً ملحوظًا في تعاطيه مع ملف التطبيع، بحيث لا يمكن المقارنة بين ما قبل أزمة 2019 وما بعدها، لاسيّما على المستوى المهني الإعلامي. منذ تلك المرحلة، بدأنا نلحظ تراجعًا تدريجيًا عن الخطاب الثابت، حيث أبدت بعض الوسائل الإعلامية استعدادًا مبطّنًا لمجاراة ما يُملَى عليها، بما يتماشى مع مصالح الممولين لا مع قناعاتها الأساسية.
وبات المشهد يتأرجح بين قنوات تحاول التمسك برفض التطبيع وإن صُنِّفت نكرة أو مُحرِّضة أو حتى خُفت صوتها كي لا توصل الحقائق وتُخاطب الضمائر النائمة، وأخرى تتخذ مسارات “أكثر مرونة“ وسهولة ووفرة مختبئة تحت وطأة الضغوط السياسية والاقتصادية، سواء الداخلية أو الخارجية. في هذا المناخ، تغيّر خطاب بعض المنصات التي كانت تُعرف بثباتها، لتتجه نحو نبرة أكثر تساهلًا، تحت عنوان“الواقعية” أو التكيّف مع الواقع.
كيف يتعامل القانون اللبناني مع التطبيع؟
حتى اليوم، لا يمكن الجزم بمسار واضح تجاه ملف التطبيع في لبنان، لا سلبًا ولا إيجابًا. فرغم غياب أي خطوات تطبيعية رسمية، واستمرار التنديدات الشعبية التي تُشكّل الأغلبية في الداخل اللبناني، إلا أنّ الواقع لا يخلو من إشارات مقلقة.
فعلى الرغم من وضوح القوانين اللبنانية، التي تُجرّم التعامل أو الترويج للعدو الإسرائيلي بكل وضوح—والتأكيد على وصفه بالعدو تحديدًا—إلا أن التساهل مع بعض الخروقات بات واضحًا، سواء في الفضاء الإعلامي أو الرقمي.
اللافت اليوم أن الرقابة، التي طالما كانت صارمة تجاه أي خطاب تطبيعي، تبدو أكثر ليونة مع تصريحات ومواقف سياسية أو شخصية تصدر عن أفراد يحملون الهوية اللبنانية، يتم تداولها على المنصات دون مساءلة جدية. في المقابل، قد تتحول هذه الرقابة نفسها إلى سيف مسلط عند مواجهة أي صوت رافض للتطبيع، أو عند إدراج أسماء بعض المؤسسات الإعلامية التي كانت حليفاً إسرائيلياً علنياً خلال الحرب والتي كانت تحرض على المدارس ومراكز الإيواء بحجج كاذبة، فيصبح المُطالِب مُطالَب بتهمة التشهير والتحريض على المحرض! كأنّ الرفضبات يُعامل كجريمة لا كموقف.
فأي ازدواجية تلك؟ وأي عدالة تلك التي تكيل بمكيالين، مع عدو ذقنا لوعته مرارًا؟
كيف يُسمح اليوم بمرور مواد إعلامية تُروّج للتطبيع بشكل غير مباشر، تحت شعارات “الانفتاح” أو “الحياد“، بينما يُخنق الصوت المناهض؟وهل نحن أمام انزلاق ناعم نحو القبول، أم أنّ هذه مؤشرات لخطر أكبر يتسلّل بخفة؟
بعض من القوانين التي تتخذ موقفاً صريح حتى اللحظة وتُشكل حائط صد قانوني في القضية الرائجة:
– *المرسوم التشريعي رقم 6340 (1955)*: المعروف بقانون مقاطعة إسرائيل، والذي يمنع اللبنانيين من أي تواصل مباشر أو غير مباشر مع العدو، تحت طائلة الملاحقة القانونية.
– *مواد من قانون العقوبات اللبناني*: أبرزها المادة 278، التي تجرّم التخابر أو التواصل مع “العدو“، وتصنّف ذلك ضمن الجرائم التي تمسّ أمن الدولة.
– *موقف الدستور اللبناني ومقدمته*: التي تُرسّخ هوية لبنان العربية ودعمه الصريح للقضية الفلسطينية، ما يجعل أي خطوة تطبيعية تضرب هذه المبادئ عرض الحائط.
– *السوابق القضائية والإعلامية*: والتي أظهرت رفضًا واضحًا من المؤسسات القانونية والإعلامية للتعامل مع شخصيات أو جهات لها علاقة بإسرائيل، ولو عن بُعد.
نراقب بخوف ما يجري من انتهاكات وضغوطات، في ظل غموض يلوح في الأفق، ليخفي معالم الحاضر بضبابه. هذا التحول في الخطاب الإعلامي اللبناني يبدو وكأنه يسير نحو اعتياد مريب: اعتياد الموت، اعتياد الدمار، اعتياد الاعتداءات اليومية. وربما يصبح الترويج للتطبيع،أو كما يُسمى، مشهدًا اعتياديًا لنا، مع أن واقع شعبنا، الذي لا يُفرَّق وإن تفرّق، يعكس حسّه العالي بالمسؤولية تجاه نفسه وجارته فلسطين. لكن، في ظل هذا المشهد الإعلامي المتأرجح بين مصالح محلية وأجندات إقليمية ودولية، لا بد من أن يعود هذا الإعلام إلى صوابه، ليحافظ على هويته الوطنية وعروبته، فالقضية لم تكن يوماً بما يريدونه هم، بل بما نمنعه نحن عنهم: بموقفنا، بكرامتنا، وبما تبقّى من عروبتنا.