إبراهيم درويش-العربي المستقل
هو اليوم الأول الفعلي لابنتي سامو في المدرسة، حدّثتني في طريقنا عن الصيف والخريف وأوراق الشجر، وطلبت منّي أن أستبدل مرآة السيارة.
تدرك سامو فنّ مغازلة سنواتها الاربع، والعبور بضحكة عينيها الى حيث تصل ارتدادات مبسمها، وصوتها التي تتقن ايضا فنّ إضافة اللون المتناسب عليه تحبّبا وتودّدا، فتستفزّ حواس العشق مع إشراقة النور في عينيها، الى أن تهدأ فوق حقول خدّها، ومروج عنقها الماسي.
فيروز، التي تنتظر الخميس المقبل، موعد بدء عامها الدراسي، كانت غارقة في بحر من صمت، استنفر فضولي.
لم تكفل القبلة المحمولة على كفيّ الهواء، باختراق جدار تأملّاتها، ونحن في طريقنا الى “الغاردوري”. أعادت هواء روحي الى مهبط قلبي محمّلا بابتسامة مربكة، وقبلة لم تحِط بما تكتنز شفتاها من دفء، مؤتمن على الدّورة الدمويّة في أوردتي.
ترّجلتُ من السيارة، عابراً الى الباب الخلفي، والنّافذة الصغيرة، حيث جالت عيناي سريعا على سفوح بياض وجهها، المرّصع بقناتي من اللآلئ المسالة، تشقّ طريقها من المقل الى مبسم العشق، ليروي ظمئاً، ملح اختجالاته.
كان بكاؤها الناعم، كسَيف تجرّع الدفءَ حدّ قدرته على اللذع والكيّ، كانت ترمي بكاءها بعيدا منّا، تنثره على الطريق الممتدّ بين المنزل ووجهتنا، فتحتُ بابها الموصود، بأقفال أمان الأهل الوهميّة، عبرَت يدي المرتجفة الى مسرح تدفقّات عينيها، علّ حرارة الأبوّة، تجفّف ما عجزت الإختلاجات عن أسره، فانهمرت انسكاباتها فوق يدي، كحمم دمعها المنصهرة حبا.
سألتها، لماذا تبكين يا أميرتي؟
رصّت حروفها المبعثرة، المبتلّة شوقا: لا أحبّ أن أذهب الى أي مكان من دون أختي، يا “تجي معي، يا أنا بروح معها”.
عبثَت فيروز بصباحي، أغدقت عليه بفائض من العاطفة، أطلقَت العنان لتحجّر الدمع في حجرتيه، لتسارع دقات قلبي، لعناق روحي، هذه الفتاة، تحمل في صدرها، قلبا كبيرا، يستطيع أن يحتويني، كطفل كبير، يعانق الطفولة على كتف أمّه.
ودّعتُ فيروز، داسّاً بين يديها قطعة من قلبي، وعبرت مع سامو الى المدرسة. سألتني، لماذا لم أقم بإيصالها قبل شقيقتها، فأجبتها، أن الامر محكوم بالمسافة، أخبرتني عن ال “Kg2 حلويات”، وحدّثتني سريعا عن رفاقها.
عند بوابة المدرسة، شعرت أن قميصي يتخطط، استشعرت بيدي والدتي تسرّحان شعري، تعلّقان عبوّة المياه الصغيرة في عنقي، استشعرت رذاذ العطر العابر من غيوم الخير الى جفاف عنقي. شممت رائحة العطور المدرسيّة، و”ساندويشات الاطفال”، تنشقّتُ رائحة أزيائهم المكويّة بحرارة قلوب الأمهات، أبحرت عجلا، ونقلت نظري بين تدرّجات الوان وأشكال ربطات شعر الفتيات، عبرت كمشط سلس في تسريحة الصبية، تزلّقت عيناي فوق أحذيتهم النظيفة. إنقبض قلبي، هيئ لي أن يد طفلتي هي من تقودني الى الصف لا العكس، لا زال لليوم المدرسي الأول نكهته، ووطأته، وسطوته، ولا زال مطرّزا سهر الأمهات ويقظتهن التي تسابق الفجر حبا وعطاء، وتعب الآباء وأمانيهم المنثورة في قلوب أبنائه، وعلىى جنبات طريقهم.
عودة مباركة الى المدارس، وتحية الى الآباء والأمهات، في يومهم الدراسي الأول.