فاطمة الدر _ العربي المستقل
لا تدري نفس بأي أرض تموت…
لكن في لبنان النفس تدرك موتها لا محالة، تعي أنها قد تموت على قيد الحياة وقد تحيا حياة بلا حياة، قد تنعم بالموت في بلد شرّع كل أسبابه بعد أن فتكت به الحروب حتى تغلغلت في آخر طياته واستولت على بصيص أمل كاد أن ينتشله من بؤسه.
تربكنا عبارات الأمل كأنها وعود كاذبة سئمنا استثمار أنفسنا فيها، نحن أبناء هذه الأرض المُتعبة، وُلدنا بعد أن صمتت المدافع، لكننا كبرنا وسط ركامها: ركام ثقة، وركام وطن، وركام مستقبل…
وربما لم نكبر، ربما بقينا بقايا ونواقص، وربما أصبحنا نحن الركامات حيث تركنا منا شيئاً لكل مرحلة لتكون عبرة لأجيال قادمة تحلم بالعيش حتى أصبحنا ركاماً واعظاً ينعم بحاضرٍ ناقصٍ.
الحروب المتنوعة على لبنان وأثرها النفسي
حروب تليها حروب وأوزار بلا ذنوب تحط رحالها في بلادنا ليكون لبنان محطة للبعض لا موطن، لا ملجأ ولا حتى منزل رغم أنه بلده الأم لكن كيف للأم أن تضع أولادها في الميتم وتشتت شملهم أم أنه لا ذنب لها وأهلها من عبث بها؟
منذ أن وضعت الحرب الأهلية اللبنانية أوزارها عام 1990، لم يحصل لبنان على فرصة حقيقية ليلتقط أنفاسه. بالكاد بدأت محاولات لملمة ما تبقى من بلدٍ أنهكته الطائفية والدماء، حتى توالت عليه الحروب الإسرائيلية، لتكمل على ما بقي من بنى تحتية وذاكرة وطنية مأزومة.
جاءت حرب تموز 2006 كحلقة من سلسلة صراعات أنهكت الشعب اللبناني، وعمّقت إحساسه الدائم بالخطر، والانتماء إلى وطن لا يعرف السكون.
فمن ذاكرة الحرب الأهلية، انتقل اللبنانيون إلى مواجهة عدوان خارجي، جعل من الخوف عادة، ومن الأمل استثناء. التراكمات النفسية والمادية لم تكن مجرد آثار جانبية، بل تحولت إلى أساس هشّ يقوم عليه وطن لا يعرف الاستقرار.
النكسات المتكررة والعدوان الذي لا ينقطع وإن انقطع لم يترك للبنانيين مساحة للنجاة النفسية، بل جعل الخوف رفيقاً دائماً يشعر اللبناني يومه ناقصاً دونه. وأصبح الشعور بعدم الأمان هو القاعدة، لا الاستثناء.
الانعكاسات الاجتماعية بعد الحروب
في أعقاب الحروب المتتالية، شكّلت الهجرة واحدة من أبرز الانعكاسات الاجتماعية في لبنان. ووفقًا لتقارير صادرة عن البنك الدولي، فإن أكثر من 40% من الشباب اللبناني يطمحون إلى الهجرة، بحثًا عن فرص معيشية أفضل وهربًا من واقع اقتصادي وأمني منهار. هذا النزيف البشري لا يقتصر فقط على خسارة طاقات شابة، بل يعكس أيضًا أزمة ثقة عميقة بين المواطن ودولته.
الثقة بالمؤسسات الرسمية تراجعت بشكل كبير، خصوصا مع تفشي الفساد وغياب المساءلة، حيث يصنّف لبنان ضمن الدول الأكثر فسادًا بحسب مؤشر مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية. تفكّك العلاقة بين الفرد والدولة أدى إلى اهتزاز الهوية الوطنية، فحلّت الانتماءات الطائفية أو المناطقية محل الشعور بالانتماء إلى وطن جامع.
تحوّل الوطن إلى جغرافيا مؤقتة في نظر كثيرين، لا إلى كيان يُحتضن ويُبنى، وهذا الانزلاق في المفهوم الجمعي زاد من هشاشة المجتمع اللبناني وأفقده تماسكه.
الانعكاسات الاقتصادية للحروب والنكسات المتلاحقة على المجتمع اللبناني
لم تقتصر الحروب على مواجهات عسكرية تنقضي وتمضي، بل شكّلت تقويضًا مستمرًا للبنية الاقتصادية، حيث أنهك الدمار المتكرر عجلة الإنتاج، وأعادها إلى نقطة الصفر في كل مرة نظن أننا دخلنا مرحلة جديدة وواعدة قد تنعش البلد. وفي كل مرة نبني ما خلفته الحرب – وهو ما يحتاج لسنوات – تأتي حرب أخرى لتهدمه، وتعيد سنواتنا العجاف، فلا نبلغ السبع سنابل الخضر.
شهد لبنان بعد كل حرب موجات تضخّم وركود، وارتفعت نسب البطالة بشكل حاد، خصوصاً في صفوف الشباب. فبحسب إحصاءات البنك الدولي، تجاوز معدل البطالة 30% بين الشباب اللبناني في السنوات الأخيرة، في ظل غياب خطط اقتصادية إنقاذية حقيقية.
كما أدى تكرار الأزمات والحروب إلى هروب الاستثمارات، وانخفاض الثقة بالقطاع المصرفي، وتدهور العملة الوطنية. هذا الانهيار الاقتصادي، الممزوج بانعدام الأفق السياسي، جعل اللبنانيين يرزحون تحت وطأة يوميات خانقة، حيث أصبح تأمين أبسط مقومات الحياة – كالكهرباء والدواء والغذاء – معركة بحد ذاتها.
صعوبة إعادة الإعمار
بعد كلّ حرب، لا بدّ من عدّ ضحايانا؛ منهم من رحل بلا عودة، ومنهم من يعود لكنه لا يُعيد ما كان، كحال تلك البيوت والمباني والأماكن التي كبرنا فيها، والتي نأمل بإعادة بنائها، لكننا نتمنى، عبثًا، أن تعود كما كانت.
وبغضّ النظر عن الذكريات والروابط النفسية التي تربطنا بأماكننا، فإن إعادة إعمار بدائلها أساسًا ليست بهذه السهولة، لا سيّما في ظلّ الضغوط الخارجية والداخلية على المستوى السياسي، والتي تهدف إلى إقصاء شريك من شركاء الوطن، بحجج تتوارى خلفها رغبات إسرائيلية بحتة، وغايات تطمح إلى التطبيع تحت مسمى “السلام”؛ سلام بُني على الاستيلاء، والانتهاك، والسرقة. سلام مع قاتلي الأطفال، وسالبي الوطن، والابن، والأم…
فماذا بعد؟ هل نرى لبنانا سالماً مُنعّماً، وغانماً مُكرّماً؟ أم نغنّيه كما غنّينا فلسطين وكل البلاد المنكوبة؟
فلسطين التي لا يفصلنا عنها شيء رغم السياج والحدود الكاذبة، لكن بيننا وبينها مسافات من سنين وتعسف وظلم، يمنعنا حتى من أن نضع أقدامنا فيها.
فلسطين التي رحنا نواسي جراحها، فقامت من تحت الركام لتحيينا بنزفها وتعود من جديد.
فلسطين البوصلة التي تُباد يوميًّا على مرأى أمةٍ فقدت البصيرة قبل البصر.
وإن كنّا نغنّي لأوطانٍ منفية، فذلك لأننا أبناء أوطانٍ لا تُنسى، بل تُغنّى وتُحكى وتُؤرَّخ… وربما تُصان، ولو بالشعر والكلمات.