إبراهيم درويش_العربي المستقل
من براثن التطويع، الى الغارات المعادية، الى التجويع، والمعاناة، مراحل مرّ بها اليمن، ليؤكد على دوره في إعادة تصويب المغالطات الجغرافيّة.
وحدهم من تابعوا مسار اليمن منذ العام 2011، مرورا بالمحطات المهمة التي عبرتها العاصمة صنعاء، كانوا يتابعون التحولات الصغيرة في هذا البلد، والتي سرعان ما استحالت، مسارات مفصلية على مستوى الداخل اليمني، والإقليم، والعالم.
سنوات ثقيلة مضت، عُمّدت بالدماء، والمجازر، وبالحرمان، وبالأسى، باللوعة، بالأمراض والأوبئة التي اعتقدنا أن التاريخ قد سجنها في دفاتره، قبل ان نسمع بها مجددا في اليمن. عائلات مشردة، أطفال بلا مأوى وبلا مدارس، جوعى بلا مأكل، وفقراء بلا ملبس.
على المقلب الآخر من هذه الصورة، كان هناك حفاة يتسلقون الجبال، ويفترشون الأودية، وسيدات اضطلعن بأدوارهن بالمجتمع، وزنّرن عائلاتهن في وجه التحديات، وفي وجه حملات الترهيب والترغيب، وخرجن الى الزراعة، ولم يتأخرن عن دعم الجبهات، بما امتلكن من حلي ومدخرات، ديدنها ديدن الرجال، الذين لم يبخلوا بقوافل الإمداد، والماشية، ونتاج زرعهم حتى بما خبأوا للأيام الصعبة.
كانت الدعاية المعاكسة أكبر بكثير، من الصورة الناصعة التي كان يعمل اليمنيون بإخلاص على تثبيتها، انطلاقا من المسيرة القرآنية، وتعزيز القيم، وتقزيم مساحات الإختلاف بين المواطنين اليمنيين، والتركيز على بناء جيل وطني متعلّم، ينخرط في المجتمع، وهذا ما تجسّد في ايلاء القيادة السياسية أهميّة خاصة للأنشطة الصيفيّ، والتركيز على بناء الإنسان.
قاتلَ اليمن باللحم الحي، وأكل مما جادت به مزارعه رغم الحصار والعدوان، وبينما كان هناك يد تحمي، كانت اليد الاخرى تبني، وتواصل ترويض الظروف القاهرة جراء تسع سنوات من الحصار والعدوان، والظروف الصعبة.
وفي خضّم معركة الصمود، كان ذوو البأس الشديد يغرفون من تاريخ عظيم، ليغيّروا الكثير من المفاهيم، لا سيما تلك المرتبطة بـ “لعنة الجغرافيا”، متبصّرين أنّ هذه الجغرافيا نعمة وإمتحان للشعوب المجدّة، المؤمنة بمسؤولياتها وبدورها، في كنف قيادة، قرّرت أن تعيد صقل الحاضر، وهذا ما يعيدنا الى تاريخ اليمن، وبسالة شعبه، وتحطّم أحلام المستعمرين عند عتبات قلاعه وحصونه.
وفي كبد الحرب، كانت فلسطين حاضرة في الوجدان اليمني، في الهتافات، والتصريحات والمواقف والشعارات، وجمع المال والتبرعات، وعند أول استحقاق جدّي، لم يتأخر اليمن عن إشهار أسلحته، ليمضي في سياق تدريجي، وعد به فوفى، وصولا الى جعل تل ابيب تحت دائرة الاستهداف اليمني، بعد طوق بحري فرضه اليمن على السفن الماخرة عباب البحرين الاحمر والعربي، والمحيط الهندي، فالبحر المتوسط.
معادلة “يافا”، أرادها اليمنيون صريحة مباشرة، فبيان المتحدث باسم القوات المسلحة اليمنية العميد يحيى سريع صدح باسم “يافا” التي استهدفت بطائرة “يافا”، والى جانب الهدف العسكري، أرغم اليمن العالم على استخدام الاسم العربي الأصلي ل”تل أبيب”، وكرره مثنى، وهو ما يؤكّد على الدور اليمني المرتقب، في إعادة ضخ الروح في الرئة العربية المتهالكة، على الرغم من السكوت الموجع، والمخيف، عن كل ما يحصل لشعب عربي أعزل، ما أراد ان يحيا ميّتا، فاختار القتال، دفاعا عن حقه المسلوب.
يقول كثيرون، يحيي العميد يحيى سريع، بصوته وطريقة قرءاته البيانات، القومية العربية، وبعد ضربة يافا، بدأ الاعلام العبري يتحدث عن نوايا لاستهدافه، وهذا ما يجسّد أهميّة التأثير الذي تحدثه بيانات القوات المسلحة، ودور العميد سريع في تعبيد طرقات عبور هذه البيانات الى عقول المستمعين على اختلاف الانتماءات والمشارب، وهذا ما يعكس حجم المتغيّرات، وحجم المأزق الذي كان خارج دائرة توقعات القاتل، حتى بدأ يتدحرج بجنون فوق الجثث، علّه يجد مخرجا، لا يقرأ في قتله الوحشي أي افق له.
في محاولة الرد على الضربات الموجعة، وجد كيان الإحتلال نفسه مضطرا، لتنفيذ ضربة أرادها إعلامية إعلانية. أراد لتلك المشاهد أن توثّق ألسنة اللهب تعلو فوق الحديدة، مع علمه التام بأن اليمن، خطّ ما بعد يافا واقعا استراتيجيا جديدا، وأن تسع سنوات من العدوان الوحشي، روّضها اليمن، وخرج منها بقوة عسكريّة هائلة، ترتكز الى عشرات الملايين ممن استمسكوا بالقرآن وبنصوصه، في معركة نصر أو شهادة.
وحول مسار المواجهة، أفادت المعلومات أن كيان الإحتلال حاول عبر استهدافه الأخير، أن يعيد رسم قواعد الإشتباك الى ما قبل ضربة “تل أبيب”، فجاء الرد اليمني حاسما، واضحا، منسجما مع كلام قائد الثورة السيد عبد الملك الحوثي، حول مواصلة العمليات، حتى وقف العدوان على قطاع غزة.
وأمس، استنفر الكيان، مرتقبا الرد اليمني، لكن صنعاء أرادت للرد أن يكون موجعا، مربِكا، وبأبعاد استراتيجية، لا ردا استعراضيا، وهو المسار الذي اعتمده اليمن، بالوعد والايفاء وهو ما يؤكد، أن على الكيان والعالم أن يرتقبا ردا مفاجئا، يمزج بين البسالة والصدق، والحكمة اليمنية.