انفجار بيروت من الاقمار الاصطناعية

يوم الأربعاء 17 تشرين الثاني الحالي صرّح رئيس وكالة الفضاء الروسية “روس كوسموس” ديمتري روغوزين، بأنَّ “الوكالة ستُسلّم الحكومة اللبنانية صوراً لميناء بيروت قبل الانفجار الذي وقع هناك في 4 آب 2020 وبعد حدوثه”.

وقال روغوزين: “لقد وقّعت اليوم على وثيقةٍ مع ملحق مفصّل بناءً على طلبٍ من الرئاسة اللبنانية، بخصوص الانفجار الذي وقع في مرفأ بيروت”.

ولكن المطلوب من موسكو أكثر من مجرد صور فضائية صورتها الأقمار الإصطناعية والمطلوب من لبنان أن يطلب أكثر من هذه الصور، فالدور الروسي في قضية تفجير مرفأ بيروت، بعضه واضح وظاهر وبعضه غامض ومستتر.

ثمة انطباع بأن موسكو تعرف الكثير من الرواية، وقد تكون تخفي الكثير من المعلومات السرية المحيطة بهذه القضية منذ تم تحميل باخرة روسوس بكمية 2750 طناً من نيترات الأمونيوم عالي الجودة من مرفأ باتومي في جورجيا حتى وصولها إلى مرفأ بيروت وتفريغها في العنبر رقم 12، ومنذ بدأ نقلها على مراحل حتى انفجار ما تبقى منها في 4 آب 2020. لا يمكن أن يقتصر الدور الروسي في هذه القضية على صور جوية قليلة بل كان يجب أن يشمل كل الفيلم الطويل الذي امتد من أيلول 2013 حتى آب 2020.

في الأساس بماذا يمكن أن تفيد التحقيق الصور الجوية؟ لا قيمة دامغة لها هذا إذا توفر مثلها عن المرفأ والعنبر رقم 12 قبل الإنفجار ولحظة حصوله وبعده. هل هناك فيلم كامل مثلاً؟ أم مجرد صور سيظهر لاحقاً أنها للمرفأ ولكنها لا تحتوي على أي دلائل تفيد التحقيق. ما يمكن أن تقدمه هذه الصور متوفر أكثر منه في الملف من خلال الأفلام القصيرة والصور التي تم تصويرها للحريق في العنبر رقم 12 قبل الإنفجار وأثناءه وبعده، وأحد هذه الأفلام مصور من كاميرا ثابتة فوق بناية داخل الأشرفية يغطي نحو 13 دقيقة من المشاهدة العينية المجردة من أي تدخل أو تعليق أو حذف أو إضافة.

منذ انفجر العنبر رقم 12 بدأت سلسلة المعلومات التي تربط بين الإنفجار والروس والباخرة روسوس التي تم شحن أطنان النيترات على متنها. خلال يوم أو يومين ظهر أن مالك الباخرة روسوس التي شحنت أطنان النيترات على متنها روسي يدعى إيغور غريتشوشكين وظهر أيضاً أن القبطان الذي تولى قيادتها من تركيا إلى بيروت هو الروسي بوريس بروكوشيف. وفي حين تم التعتيم كلياً تقريباً على المالك وعلى هوية الباخرة عبر تسريب معلومات تشكك في ملكيته لها وتقول إنه كان يستأجرها قيل أيضاً أنه متهم بقضايا ومتوار عن الأنظار أو يقيم في غير روسيا، وتحديداً في قبرص التي قيل إنها حققت معه ولم توقفه. بينما وبعد يوم واحد تقريباً على الإنفجار ظهر القبطان إلى العلن وتولى الإطلالة وعلى مدى أيام وأسابيع على أكثر من محطة تلفزيونية وأعطى مقابلات لأكثر من صحيفة عالمية ولبنانية يتحدث فيها كلها عن دوره في قيادة الباخرة مع طاقمه الذي كان يضم ثمانية أوكرانيين وروسياً. وإذا كان المالك المفترض لم يظهر فإن ما فرض ظهور القبطان هو أنه بقي محتجزاً مع طاقمه على متن الباخرة نحو عشرة أشهر في مرفأ بيروت قبل أن يتم إخلاء سبيلهم بطريقة بقيت تحيط بها الإلتباسات لناحية طول المدة التي احتجزوا فيها ولناحية الكلفة المادية لقاء دفع الكفالة عنهم بعدما تخلى عنهم المالك المفترض. القبطان لم ينكر دوره ولم يخفِ الطريقة الغامضة التي أوصلته إلى الباخرة التي تخلى عنها قبطانها الأساسي في تركيا بعد خلاف بينه وبين المالك وربما أصحاب البضاعة وكان من اللافت أن يدعي القبطان الروسي أنه تولى هذه المهمة لإيصال الباخرة إلى الموزمبيق لقاء مليون دولار بينما لم يكن من المؤكد أن الباخرة تستطيع أن تغادر البحر الأبيض المتوسط نظراً لملفها البحري والتأميني ونظراً لكونها غير صالحة للملاحة وللشحن.

القبطان الروسي بعد يوم واحد على الإنفجار كشف أنه بعث برسائل إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. قال بروكوشيف في تصريحات عبر الهاتف لصحيفة نيويورك تايمز، من منتجع على ساحل البحر الأسود حيث بدأت السفينة رحلتها عام 2013: “لقد شعرت بالرعب بعد مشاهدة الانفجار”.

وكشف إنه كتب بانتظام إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بشأن السفينة الخطرة بعد احتجازها. وأضاف: “كنا نعيش على برميل بارود لمدة عشرة أشهر بدون أن نتقاضى أجراً”، وأشار إلى أنه أبلغ بوتين أنه تُرك في حالة نسيان مع الشحنة المتفجرة من قبل المالك الروسي للسفينة.

وتابع القبطان يقول إنه كتب للرئيس الروسي: “حالتنا أسوأ من الأسرى. السجين يعرف متى سيفرج عنه. نحن لا نعلم”، وقال إنه تم إبلاغه رسمياً أن دعوته لبوتين للتصرف على السفينة قد تم تحويلها إلى وزارة الخارجية الروسية. وقال إن القنصل في بيروت سخر منه متسائلاً: “ماذا تريد؟ هل تريد أن يرسل بوتين قوات خاصة ليتم الإفراج عن الباخرة وعنكم هنا بالقوة؟”.

ربما لم تصل مناشدات القبطان إلى الرئيس الروسي بوتين. ولكن من دون شك كان بوتين يعلم بأن مالك السفينة روسي وبأن القبطان روسي وربما كان يعلم أكثر من ذلك. فالرئيس لم يأت إلى الرئاسة من الجامعة بل من رئاسة جهاز المخابرات الروسي وقبله من الـ”كي جي بي”. بطبيعة الحال كان من الواجب أن تكون أجهزة المخابرات الروسية قد أبلغته بكل هذه الجوانب.

ربما لم يكن الرئيس بوتين ينتظر من يسأله عن تفجير مرفأ بيروت في 21 تشرين الأول الماضي خلال مشاركته في الجلسة العامة لمنتدى “فالداي” ليقول “إن “حزب الله” قوة سياسية كبيرة في لبنان لكن من الضروري حل الخلافات عبر الحوار من دون سفك الدماء”. وليضيف: “في ما يتعلق بكارثة انفجار مرفأ بيروت، أود أن أعرب من جديد عن تعازيّ للشعب اللبناني حيث سقط هناك عدد كبير من القتلى إضافة إلى وقوع أضرار هائلة. علمت بالأمور من وسائل الإعلام، بما في ذلك أنه تم منذ عدة سنوات نقل شحنة من نيترات الأمونيوم إلى الميناء وأن السلطات المحلية لم تتعامل للأسف مع ذلك نظراً للرغبة، حسبما فهمت، في بيع الشحنة بشكل مربح… هذا ما نجم عن الكارثة قبل كل شيء برأيي”. وتابع: “أما المساعدة في التحقيق، فلا أفهم بصراحة كيف يمكن أن تساعد أي صور ملتقطة بالأقمار الصناعية في حال وجودها عندنا أصلاً، لكنني أعد بأن أدرس الموضوع فإذا يمكننا المساعدة في إجراء التحقيق فنحن بالطبع سنفعل ذلك”.

لم يجزم بوتين بوجود الصور. وشكك في الإفادة منها حتى لو كانت موجودة.

التقط رئيس الجمهورية ميشال عون فرصة ما قاله بوتين وأراد أن يدخل على الخط. استقبل السفير الروسي ألكسندر روداكوف في 29 تشرين الأول وأعلمه برغبة لبنان في الحصول على صور الأقمار الروسية، التي التُقطت في يوم الانفجار الكبير الذي وقع في ميناء بيروت. بعد أقل من شهر أتى تصريح رئيس وكالة الفضاء الروسية “روس كوسموس” ديمتري روغوزين، بأنَّ “الوكالة ستُسلّم الحكومة اللبنانية صوراً لميناء بيروت قبل الانفجار الذي وقع هناك.

ربما لم يعلم رئيس الجمهورية أكثر من ذلك. عندما علم بوجود كميات النيترات في العنبر رقم 12 لم يتحرك وبعد الإنفجار قال إنه لا يملك الصلاحية ليعطي الأوامر أو التوجيهات الخاصة بذلك. ولكن ألم يكن هناك أي من فريق عمله ليطلعه على أن النائب العام التمييزي في بيروت القاضي غسان خوري، كان أرسل في بداية شهر كانون الثاني 2021 طلباً رسمياً إلى الانتربول الدولي، من أجل اعتقال مواطنين روسيين، على خلفية انفجار مرفأ بيروت المروع، هما مالك السفينة إيغور غريتشوشكين، وقبطانها بوريس بروكوشيف؟

وفي 12 كانون الثاني تسلم المحامي العام التمييزي القاضي غسان خوري الذي يتولى جميع المراسلات والطلبات الدولية المرتبطة بانفجار المرفأ كتاباً من الإنتربول الدولي، أبلغه بموجبه بأنه أصدر مذكرات توقيف دولية وعممها عبر النشرة الحمراء على كل الدول الأعضاء، لتوقيف كل من إيغور غريشوشكين مالك الباخرة “روسوس”، وبوريس يوري بروكوشيف قبطان الباخرة (من التابعية الروسية)، بالإضافة إلى مذكرة مماثلة بحق جورج موريرا (برتغالي الجنسية) التاجر الذي اشترى نترات الأمونيوم من شركة “روستافي أزوت” في جورجيا المصنعة لهذه المواد.

وربما فات الرئيس أيضاً أن النيابة العامة الروسية أعلنت في 22 كانون الثاني عن غياب أرضية قانونية لتلبية طلب الشرطة الدولية “الإنتربول” اعتقال مواطنين روسيين، على خلفية انفجار مرفأ بيروت. ونقلت وكالة “نوفوستي” الروسية شبه الرسمية عن النيابة العامة ذكرها أنها لم تتلق أي طلبات من الجهات الأجنبية المختصة بشأن تسليم المواطنين الروسيين، إيغور غريتشوشكين، وبوريس بروكوشيف، إلى دولة أجنبية، أو تقديم مساعدة قانونية بشأنهما.

وأشارت النيابة إلى أن هذين المواطنين نظراً لحملهما الجنسية الروسية، لا يمكن تسليمهما إلى دولة أخرى أو اعتقالهما في الأراضي الروسية بطلب من الجهات المختصة في دولة أجنبية بهدف تسليمهما إليها.

إذا كانت روسيا رفضت تسليم المالك والقبطان لماذا لم تحقّق معهما مثلاً؟ أو لماذا لا تسمح بأن يحقّق معهما المحقّق العدلي طارق البيطار في روسيا أو في أي دولة أخرى؟ ألم يكن من الأفضل لو طالب الرئيس بتسليمهما إلى لبنان بدل الصور الفضائية الفارغة من أي مضمون؟

لا يقتصر الأمر على هذا الحد. هناك ما هو أبعد من المالك والقبطان. ثمة تحقيقات ربطت بين النظام السوري والشحنة وبين الدولة الروسية. هناك تحقيقات مستقلة كشفت أن رجلي أعمال سوريين يحملان الجنسية الروسية متورطان في جلب شحنة النيترات إلى مرفأ بيروت، وهما مدلل خوري وجورج حسواني، اللذان يعتبران من أشد الداعمين لنظام بشار الأسد.

هل هناك رابط ما بين سوريا وروسيا والشحنة؟ ربما هذا هو السؤال الذي يحتاج إلى إجابة. وإذا كان هناك رابط معين فكيف يمكن أن تتعاون روسيا مع التحقيق؟ لماذا هذا الربط؟ لأن هناك من ربط بين الدور الروسي في تخلص سوريا من الأسلحة الكيماوية في العام 2013 بعد تهديد الرئيس الأميركي باراك أوباما للنظام السوري بعد استخدامه هذه المواد ضد المدنيين وبين استقدام النيترات إلى لبنان لاستخدامه في الحرب السورية في الفترة نفسها.

إذا كان الرئيس الروسي اعتبر “أن السلطات المحلية لم تتعامل للأسف مع خطورة مواد النيترات نظراً للرغبة، حسبما فهمت، في بيع الشحنة بشكل مربح” فماذا يمكن انتظاره من الصور الفضائية؟