حفروا الحفرة لسلامة… فأوقعهم فيها

القعر الذي بلغه لبنان بفعل السياسات العشوائية المعتمدة منذ طلب وزير الاتصالات في حكومة سعد الحريري فرض رسم ٦ سنت على اتصالات الواتساب، جعل اللعب اليوم على المكشوف، بحيث لم يعد خافياً على اي لبناني، حجم الفضائح التي تتكشف بفعل تقاذف المسؤوليات وسعي كل فريق تلبيس تهمة التعطيل والهدر والسرقة للفريق الآخر، من دون إقامة أي اعتبار لما ترتبه تلك الممارسات غير المسؤولة من تهديد جدي للامن والسلم الأهلي.

اللبنانيون يتقاتلون امام محطات المحروقات والأفران والصيدليات، ومسلسل الذل يستمر فصولاً منذ اشهر من دون ان تحرك اجهزة الدولة وأركانها ساكناً لاحتواء تفجر الازمات على خلفية شُح السيولة بالدولار التي أدت الى قيود على فتح الاعتمادات لاستيراد المواد الاساسية، في بلد يعتمد بنسبة ٨٠ في المئة من استهلاكه على الخارج. على العكس، كان انشغال أهل السلطة حيث تقضي مصالحهم والأجندات التي ينفذونها لمصلحة غيرهم.

بقيت البلاد من دون سلطة تنفيذية فاعلة لعام كامل، شهد تكليف ثلاثة شخصيات لتأليف حكومة جديدة، لم ينجح اي منهم في تجاوز قطوع العقد والتعطيل. فيما حكومة تصريف الاعمال استمرت في صرف آخر ما تبقى من نقد اجنبي في احتياطات المصرف المركزي عبر امعانها في اعتماد سياسة الدعم لما لها من اثر شعبوي كبير على أبواب الانتخابات من جهة، وكسب مادي للمافيات الاقتصادية الحاكمة من جهة اخرى، وتعاضد اقتصادي ومالي مع الدولة السورية عبر الحدود من جهة ثالثة، الى ان دقت ساعة الحقيقة وانتهت لعبة شراء الوقت. فلا حكومة تألفت، ولا دعم مالي دولي تحقق، فكان على اصحاب الامر مواجهة الحقيقة ولكن ليس بالحقيقة بل بتكاذب اكبر واخطر.

لم يكن مفاجئاً ان يعمد حاكم المصرف المركزي الى وقف الدعم عن المحروقات. فهو أعد العدة جيداً لهذا القرار ان في الاجتماعات الرسمية حيث كان يدأب على التحذير والتأكيد ان الاحتياطات لديه بلغت الخط الأحمر، ولكن المنظومة الحاكمة لم تتعامل مع التحذيرات بجدية، واضعة إياها في اطار الضغط السياسي الذي يمارسه رياض سلامة على العهد، كرد على معارضة الاخير له.

اختار سلامة توقيت ضربته بعناية تامة. فبعد اجتماع للمجلس الأعلى للدفاع، حيث ابلغ المجتمعين عجزه عن الاستمرار في الدعم، خرج وأصدر بيانه مساء محدداً دخوله حيز التنفيذ في اليوم التالي. ورغم الهجمة الشرسة التي تعرض لها ولا سيما من رئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل الذي وصف قرار سلامة بالجريمة الموصوفة، فإن الرجل لم يتراجع، بل ذهب ابعد في طلبه التغطية القانونية لأي مَس بالاحتياطات الالزامية.

يعرف سلامة جيدا كيف يغطي نفسه قانونياً، وكيف يغرق اصحاب السلطة المنتشين بسلطتهم في أفخاخ تحميلهم المسؤولية. هي ليست المرة الاولى التي ينصب فيها الحاكم فخاً لهذه السلطة، وليست حتماً المرة الاخيرة التي تقع هذه في شركه. فقرار الاستقرار النقدي وتثبيت سعر الصرف كان قراراً سياسياً بامتياز، تماماً كما كان قرار تحرير السعر وتحويل وجهة دعم الليرة الى دعم المواد الاساسية، كما هو اليوم قرار رفع الدعم المفترض ان يحصل بالتزامن مع بدء العمل بالبطاقة التمويلية. مفاجأة سلامة انه لم ينتظر اكثر لعلمه ان البطاقة لن تقر قريباً. والآتي من الايام سيحمل تشريعاً للمجلس المركزي لاستعمال الاحتياط، وربما بعد ان ينفد، يقر تشريع آخر بتحرير الذهب. المهم ان يبقى سعر البنزين والمازوت اقل من سعره في سوريا.

قرار الحاكم بتحرير الدعم وتركه مسألة تحديد التسعيرة لوزارة الطاقة، ودعوته السلطة الى تشريع يجيز المس بالاحتياطي حرره من مسؤولية هدر ما تبقى منه، ولم ينجح الاجتماع الذي عقد امس في قصر بعبدا في تغيير موقف الحاكم، سيما وانه أتى نتيجة شرحه تداعيات الاستمرار في الدعم على الاحتياطي، ولم يلق اعتراضاً. وما ان اصدر بيانه حتى انقلبت المواقف وبدأت الاعتراضات والاستهدافات للمركزي وكأن القرار كان فردياً ومفاجئاً وغير منتظر. وهو ما اتهمه به رئيس حكومة تصريف الاعمال حسان دياب الذي غاب عن اجتماع المجلس الأعلى للدفاع اذ قال ان الحاكم اتخذ قراره منفرداً، فيما حكومته تصر على ترشيد الدعم وليس رفعه، وان يتم تطبيق ذلك مع بدء تطبيق البطاقة التمويلية.

والواقع ان دياب ادان حكومته بفمه اذ ان رفع الدعم يجب ان يترافق مع اجراءين على حكومته تنفيذهما: ترشيد الدعم وبدء العمل بالبطاقة التمويلية. والاجراءان لم يسلكا طريقهما الى التنفيذ، ما دفع سلامة الى السير برفع الدعم.

اجتماع بعبدا امس لم يخلص الى نتيجة عملية باستثناء صدور قرار عن المديرية العامة للنفط يرفض العمل ببيان المركزي، داعياً الشركات الى الالتزام بجدول تركيب الاسعار الصادر الأربعاء عن الوزارة، نافياً ان تكون الاسعار المتداول بها لصفيحة البنزين او المازوت وفق سعر الصرف في السوق السوداء صحيحاً. وهذا يعني ان صراعاً بدأ بين المركزي وبين الوزارة حول السعر الذي يعتمد، سيما وان المركزي أبقى عملية الاستيراد عبره.

وهذا الصراع يعكس عملياً المواجهة الحقيقية والمكشوفة التي فتحها التيار الوطني الحر على سلامة بهدف استعماله كبش محرقة في ملف رفع الدعم، بعدما سحب المسؤولون الواحد تلو الآخر، وآخرهم دياب يده من هذا الملف المحرِق مالياً وشعبياً، ليفتح التيار في المقابل معركة شعبوية عبر دعوة مناصريه الى النزول الى الشارع والتظاهر امام منزل سلامة.

في الخلاصة، الدعم رُفع، وقرار السير به بات مسألة وقت بعد ان يتم حرق الكبش الذي سيتحمل مسؤوليته.

حتى الآن يبدو سلامة في الواجهة، فهل وقع او انه أوقع من نصبه له فيه؟

النهار: ساسين عويس