إبراهيم درويش_ العربي المستقل
لا أدري هذا الشعب في أي مدارس تعلّم الصبر…
هناك، رجل ثمانيني، بالكاد ينقل الخطى، يدفع وحيدا سيارته الفارغة من الوقود.
في مشهد آخر، مزينون نقلوا كراسي الحلاقة الى الرصيف، نتيجة انقطاع الكهرباء.
في المنازل، سيدات تملأ المغاطس مياها، حيث تجلس لساعات مع أطفالهن، للإحتيال على درجات الحرارة.
على هذا المسرح أيضا، متقاعدون سلبت أموالهم، يتدبرون أمورهم، بما تيسّر، بعزة وكتمان، وكأنما شيئا لم يتبدل.
هنا أيضا شبان ارتضوا قليل الميسور رواتب، وعملوا في مهن لا تمت الى شهاداتهم بصلة، وآخرون استكملوا ملفاتهم، بانتظار أي تأشيرة خلاص، خارج هذا الوطن.
قد نكون في قمة الساديّة أحيانا، وبغاية القسوة، مطالبين الناس بالخروج بوجه الفقر والفساد، وننسى ما كابده هذا الشعب، منذ أبصر النور هنا.
لا زالت صورة قناديل الكاز تضيء بشح ذاكرتي، وأكياس الشمع تضيء بترنح التجوفات المظلمة في ذاكرتي، كما أذكر جيدا يوم تابعنا كأس العالم في التسعينيات على التلفزيون المشبوك على بطارية السيارة، وتهدر في أذني الصهاريج المتنقلة، لتمن على اللبنانيين بالقليل من المياه.
ليس هذا كل شيء، لا زالت أصوات القذائف تسرح في مخيلتي، ويلمع وميضها في عيني، فتحرقني، وتكوي بصلف جروحي، ناهيك عن معارك الداخل، والذبح على الهوية، الى تل الزعتر، فالبربارة، وصبرا وشاتيلا، فقانا الأولى والثانية، ومروحين، وصريفا، والمنصوري.
وتكر سبحة الذكريات، الى التفجيرات المتتالية، والإغتيالات السياسية والأمنية، الى تمدد داعش والتكفيريين وعبواتهم الى والمعارك المتنقلة، والدماء التي أريقت.
وتستكمل المشهدية، بطوفان الطرقات، وحرائق الأحراش، وصولا الى النفايات التي سبحت في شوارعنا، الى أزمة البطالة، وسرقة أموال المودعين، فالمحسوبية والمحاصصة والفساد المقونن وغير المقونن، فالرابع من آب، الذي قتل فينا ما تبقى من عزائم، وصولا الى أزمة الدولار، وانهيار الليرة، فطوابير الخبز والبنزين والدواء، وصولا الى أزمة المازوت، واغراقنا في الظلام، امتدادا الى جشع التجار والمحتكرين وكل هذا على وقع هواجس الحرب التي قد تنشب في أي لحظة.
فبالله عليكم، أي أجساد من فولاذ، وأي أرواح من بأس قادرة على تحمل كل هذا!
نحن عصف بنا كل هذا، ولا زلنا نلوك الصبر، ونحب الحياة، ما استطعنا اليها سبيلا، ولا زال آل الساسة على نهجهم، ولا زال الأمس أكثر إشراقا من اليوم.