إبراهيم درويش- العربي المستقل
ليال من الرعب والعزّة عشتها في غزّة…
لم أكن أتوقّع، أنني ومن دون تخطيط مسبق، سأتسلّل عبر ذلك المعبر، الى غزّة.
فائض من الوجع، لطالما استوطن في قلبي، وأنا أتابع تفاصيل الإستباحة اليوميّة للمستوطنين، في حي الشيخ جراح، والإعتداءات الإسرائيلية الوحشية، على إمتداد الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وصولا الى حرمان المقدسييين من حقّهم في الاقتراع، والمشروع الصهيوني الحقير التهويدي في القدس.
لقد كان الشعور بالعجز قاتلا، وسط تخاذل الإعلام عما يحلّ بأرض تليق بها الحياة.
لم يستمر الوضع على حاله طويلا، فسرعان ما تسارعت الأحداث، وانتفض الفلسطينيون، على الجلّاد، أعادوا عقارب الساعة، سنوات كثيرة الى الوراء، ليخطوا المستقبل، بمزيج من النار والبارود والدماء، ورشقات من العزة والكرامة والإباء.
في خضّم هذه الملحمة البطولية، لا زلت أعجز عن فهم كيف ساقني ذلك المعبر الى غزة، كانت التطورات أسرع من محاولة استيعابها، تحوّل في المشهديّة. فلسطين التي قسّمها العدو إداريا ومستوطنات، استحالت الى ساحة واحدة تهتف، بكل لغات النضال لا مكان لكم على هذه الأرض”.
جثوت، أشتم رائحة الزيتون، أجول في أزقة خان يونس، وحي الرمال، وجحر الديك، ورفح، وحي المنارة، وشارع القرم، وحملت معي من بيروت مفاتيح بيوت المقدسيين، وتفاجأت أنه وعلى الرغم من قيام كيان الاحتلال، باستبدال الأبواب، فلا زالت المفاتيح، قادرة على فتحها.
لم يتح لي الوقت التنقّل مطوّلا في القدس ولا الصلاة في الأقصى، فصلاة بطقوس مختلفة، كانت كبّرت لها، أنفاق غزة، عدت الى القطاع، حيث أمضيت ليالي المواجهات البطولية، بكل تفاصيلها، لحظة بلحظة، غارة بغارة، صاروخ بصاروخ، كنت شاهدا على معظم إنذارات الإخلاء الوحشيّة، وعلى التدمير الهمجيّ. كان دماء الأطفال، يمتزج بدماء شهداء قانا ومروحين وصريفا، فهؤلاء جميعهم، كانوا معي، فقد ووروا الثرى في رياض قلبي، وشهدوا مثلي، على صلابة المقاومة، على صلياتها، على صواريخها التي حوّلت مستعمرات العدو، الى ملاجئ من رعب، عشنا كل ليالي الحرب، برعبها وعزّها، وبعد كل غارة، كنّا ننفض ركام الوحشيّة، لنكمل، فالعدو أدرك قتل جسدنا، لكن صواريخه تكسّرت عند أعتاب أرواحنا المتجدّدة حنقا وبغضا، ومقاومة، وعزيمة، على هزيمته.
كنت هناك في غزة، مع أطفالها، وعلى مقربة مني في بيروت، صوت طفلتي فيروز وابتسام، أبحر في ابتسامتيهما، فأقرضها لأطفال فلسطين، تحت النار والدمار، وأصلي لننتصر في فلسطين، لأن هذا العدو، ما لم نقتله، في أي بقعة، سيقتلنا، فهل ننسى غدره، وليالي الجنوب الطويلة، المخضبة بالدماء!
نعم، كنت في غزة، وأنا في بيروت، داخل جدران وهميّة، لغرفة على تطبيق الواتساب، كان الرفاق من اعلاميي غزة، يشاركونني لحظة بلحظة، كل تفصيل، كنت أستشهد مع من استشهدوا، وأحيا، مع كل إنتصار وإنكسار، كنت معهم في كل تلك الليالي، كنت أفرش قلبي بصمت، وشاحا دافئا ودرعا ليّنا صادقا محباً في مساءاتهم.
هُزم الكيان، إنتتصرت غزة، إنتصرت القدس، ونابلس ويافا والعدو سيعيد حساباته في الضفة، وحيّ الشيخ جراح والقدس، والداخل الفلسطيني، رقصت معهم فرحا، قبلتهم، فردا فردا، قبل العودة، بقيت هناك، وأبقيت بعضا من قلبي معهم، ثم عدت مع ساعات الفجر، كان لي شرف المشاركة التلفزيونية، لأتحدث عن انتصار فلسطين. أنهكني التعب، وقلة النوم، لكن المعركة لم تنتهِ، كان عليّ أن أخط هذه الحروف، استنشقت أنفاس طفلتيّ، سرقت منهما الكثير من الطمأنينة، وطمأنتهما أن آلة القتل الإسرائيليّة، ستفكّر كثيرا، قبل أن تفكر في العبث بطفولتهما، وبطفولة اترابهما. وأخربتهما ان ما قبل فلسطين لن يكون كما بعدها، وأن غدا يوم آخر.