في يوميات الشعب اللبناني، شعور بالتكيف مع أزمة سياسية خانقة تحت وطأة انهيار مالي واقتصادي غير مسبوق، مدفوع بقدرة استثنائية لدى اللبنانيين على التأقلم مع الأزمات والصمود في وجهها.
لا يلغي ذلك الشعور وتلك القدرة على المواجهة حجم القلق العارم السائد في أوساط الشريحة الأكبر من هؤلاء، ولا سيما من كانوا يشكلون الطبقة الوسطى أو أصحاب الدخل المتوسط، وقد تحوّلوا بفعل الأزمة وانهيار العملة الوطنية الى شريحة ذوي الدخل المحدود أو المتدني، التي باتت تقارب بدورها مستوى الفقر، وهي تجاوز نسبة الـ55 في المئة، وفق آخر تقديرات البنك الدولي.
مصدر القلق يعود الى ارتفاع احتمالات لجوء الحكومة اللبنانية المستقيلة برئاسة حسان دياب الى اتخاذ قرار بوقف سياسة الدعم المعتمدة في البلاد والتي توسعت بفعل الأزمة الخانقة لتطال سلعاً ومواد لم يسبق أن شملها الدعم، وهي مهددة اليوم بالتوقف بعدما فاقت كلفتها الستة مليارات دولار سنوياً، تنفق مما تبقى لدى المصرف المركزي من احتياطات بالعملات الأجنبية. علماً أن هذه السياسة لم تؤد النتيجة غايتها بدعم الأسر المحتاجة، بل ذهبت هدراً وتهريباً الى سوريا.
قرار رفع الدعم يأتي نتيجة تهديد حاكم المصرف المركزي رياض سلامة بعدم قدرة المركزي على الاستمرار في هدر الاحتياطات التي هي عملياً أموال المودعين، وقد أودعتها المصارف لدى المركزي كاحتياطي إلزامي نسبته 15 في المئة من مجموع الودائع. لكن الوصول الى هذا القرار لا تزال دونه عقبات أساسية، أولاها أن أياً ممن في السلطة ليس في وارد اتخاذه وتحمل تداعياته التي ستكون كارثية على اللبنانيين. من بين هؤلاء من يخشى من رد فعل المستفيدين من هذا الدعم في سوريا عبر التهريب، أو في لبنان مثل “حزب الله” الذي تمكّن من ملء مستودعاته بكل ما توافر من الداخل أو عبر مساعدات خارجية. البعض الآخر لا يريد أن يوسم بقرار غير شعبي على أبواب انتخابات نيابية.
بدا واضحاً من كتاب الحاكم الى وزير المال قبل نحو أسبوعين، أنه غير قادر على الاستمرار في الدعم، داعياً الحكومة الى وضع تصور واضح لسياسة الدعم التي تريد اعتمادها لوضع حد للهدف الحاصل وضمن حدود وضوابط تسمح بالحفاظ على موجودات المركزي بالعملات الأجنبية، والعمل على تأمين واردات بهذه العملات لتغطية كلفة الدعم.
الحاكم رمى كرة المسؤولية في ملعب وزارة المال للتصرف، فما كان من الوزير إلا أن وضع الكتاب في عهدة رئاسة الحكومة، داعياً الحكومة الى الاطلاع واتخاذ ما تراه مناسباً بهذا الشأن، لا سيما أن الموضوع يتعلق بالحكومة لا بوزارة المال.
من جهته، رئيس الحكومة المستقيل يسعى الى إبعاد كأس رفع الدعم عنه، دافعاً بها نحو رئيس الحكومة المكلف سعد الحريري، باعتبار أن قراراً كهذا يجب أن يكون من مسؤولية الحكومة العتيدة، كون حكومة دياب لا تتمتع بصلاحيات اتخاذ قرارات وتقتصر صلاحياتها بتصريف الأعمال فقط، فيما الحريري نفسه ينأى بنفسه عن قرار كهذا.
في الانتظار، وفي ظل امتناع أي مسؤول عن تحمل المسؤولية ورميها على الآخرين، برز خيار اعتماد بطاقة تمويلية تمنح للأسر الأكثر احتياجاً، انطلاقاً من القرض الميسر للبنان الدولي الذي يستهدف هذه الشريحة. وهنا تبرز مجموعة عوائق لا تزال تحول دون السير بهذا الخيار، أهمها الحاجة الى أجوبة عن الأسئلة الآتية: من سيستفيد من هذه البطاقة، ومن سيحدد الشرائح المستفيدة، ومن يضمن وصول المال الى المستهدفين، فلا تدخل الحسابات الانتخابية في تحديد هذه الأسر؟ كيف سيتم تمويل البطاقة وهل ستكون بالليرة اللبنانية أم بالدولار، خصوصاً أن قرض البنك الدولي البالغ 200 مليون دولار غير كافٍ لتأمين التمويل المطلوب، وهو يتجاوز المليار دولار سنوياً، لا سيما أن الجواب القطري في شأن المساعدة بناءً لطلب حسان دياب خلال زيارة الدوحة أخيراً لم يكن مشجعاً، بعدما لم يسمع المسؤولون القطريون أي أجوبة واضحة حول الأسئلة المشار اليها؟
الواضح حتى الآن، أن قرار الدعم لن يُتخذ دفعة واحدة، بل سيكون تدريجياً وعلى دفعات، على ألا يمس المواد الأساسية كالطحين وجزء كبير من الأدوية، ولا سيما المزمنة، والفيول لزوم مؤسسة كهرباء لبنان. وهذا يعني حكماً أن التهريب سيستمر.
أما التمويل، فثمة توجه الى خفض الاعتمادات الملحوظة لدى المركزي، وقيمتها ستة مليارات دولار سنوياً الى مليارين لاستكمال دعم المواد الأساسية، على أن يتم تخصيص مليار دولار لتمويل البطاقة.
ما القرار الذي سيصدر بعدما بات ثابتاً أن المصرف المركزي لن يكون قادراً على الاستمرار اعتبارات من حزيران (يونيو) المقبل، أي أن شهراً واحداً فقط يفصل اللبنانيين عن الكارثة المقبلة بخطوات ثابتة نحوهم.
حتى اليوم، لم يُحسم القرار، ولكن الأكيد يكمن في أمرين: أن المواد المدعومة لم تعد متوافرة في الأسواق، وهي الى تراجع، والثاني والحتمي أن اللبنانيين باتوا على مسافة خطوات نحو “الشحاذة” والعيش على الإعانات!
المصدر: النهار العربي