يمسك سعر صرف الدولار نفسه منذ 22 آذار الماضي، ويتأرجح على تطبيقات الهواتف الذكية التي تهيمن على حركته اليومية بين هامشيْ 11 ألفاً و12 ألفاً، أعلى “نكزة” أو أقلّ “نكزة”. هكذا مُنتظراً بتَّ أمرِ منصّة “صيرفة” التي يؤمل أن يُطلقها مصرف لبنان منتصف الشهر الحالي، ويعوّل كثيرون عليها من أجل لجم الدولار، وربّما خفض سعر صرفه إلى 10 آلاف ليرة وما دون بحسب الكثير من التوقّعات.
أشارت مصادر صيرفية لـ”أساس” إلى أنّ هذه “الأجواء التفاؤلية” أثّرت تأثيراً ملحوظاً في سعر الصرف في “السوق السوداء” خلال الأسبوعين المنصرمين، لناحية انخفاض منسوب الطلب على الدولار، على عكس العرض (البيع) الذي بقي ثابتاً نسبياً، ثم شهد زيادة ملحوظة قُبيل عطلة عيد الفصح، اقتصرت على حَمَلَة الدولارات من بين الأفراد العاديين، ومن أجل الاستهلاك اليومي.
وأدّى هذا الأمر، بحسب المصادر، إلى استقرار سعر الصرف، خصوصاً أنّ الطلب على الدولار من تجّار الموادّ الغذائية والمستوردين بقي في الأسبوعين المنصرمين، شبهَ معدوم بسبب نتظار تفعيل المنصّة، إذ عمد هؤلاء إلى تكديس أوراق الليرات اللبنانية التي حصلوا عليها من عمليات البيع، والاحتفاظ بها في الخزنات من أجل شراء الدولارات مجدّداً من الصرّافين على سعر صرف مُفترض، قيل في حينه إنّه لن يكون أكثر من 10 آلاف ليرة.
المفارقة أنّ هؤلاء التجار يسعّرون بضائعهم في هذا الوقت المستقطع، خصوصاً الموادّ الغذائية، على سعر صرف 15 ألف ليرة، على الرغم من أن سعر الصرف انخفض إلى حدود 11500 ليرة، وسط غياب تامّ للدور الرقابي الذي يُفترض أن تؤدّيه وزارة الاقتصاد. وبناءً على ذلك، ستكون أرباح التجّار ضمن هامش 5000 ليرة لبنانية لكل دولار واحد، في حال صدق حاكم مصرف لبنان رياض سلامة وأطلق منصّته، ووفى بالوعد الذي قطعه لرئاسة الجمهورية بضبط سعر الصرف.
تؤكّد أوساط مصرف لبنان لـ”أساس” أنّ انطلاقة المنصة لا يوجد ما يعوّقها في المبدأ. فالأموال المطلوبة للتدخّل “عند الحاجة” جاهزة، والاستعدادات اللوجستية الخاصة بذلك باتت مكتملة أيضاً. لكنّ المركزي لا يُفصح عن مصدر الدولارات التي يشيع أنّه سيتدخّل بها للجم السوق. هل هي ممّا بقي لديه من احتياطات بالدولار؟ أم من الاحتياط الإلزامي الخاص بالمصارف؟
لا إجابات واضحة من مصرف لبنان عن هذه المسألة حتّى اللحظة، لكن يبدو أنّ الثابت الوحيد لدى “المركزي” هو اقتناعه الدائم بأنّ الدعم غير قابل للاستمرار إلى ما بعد شهر أيّار، وأنّ المبالغ المطلوبة للتدخّل “عند الحاجة”، من أجل ضبط سعر الصرف من خلال المنصّة، ستكون أقلّ بكثير مما يُنفق على دعم السلع “العشوائي والمتفلّت”، الذي نشهده منذ سنة ونصف.
لكن على الرغم من ذلك، يوجد عائق سياسيّ يتمثّل في تأخّر تشكيل الحكومة. فالمصرف المركزي ما زال مصرّاً على أنّ تشكيل الحكومة هو شرط إلزامي لتفعيل المنصّة، لكي يعود تدخّله في السوق بالنفع على الدورة الاقتصادية، وليس على التجّار والصرّافين مثلما يحصل اليوم، ويؤكّد أنّه لن يرضى بهدر الدولارات بلا طائل، وفي وقت سياسي ضائع لا يحمل أيّ أفق للحلّ.
ويزيد تأخير تفعيل المنصّة في منسوب الإحراج الذي يقع فيه “المركزي” يوماً بعد يوم، لأنّه ما عاد قادراً على تأجيل تفعيلها أكثر من ذلك للسببين التاليين:
أولاً: بسبب الوعد الذي قطعه الحاكم رياض سلامة لرئاسة الجمهورية، ثم أجّله بحجّة عدم جهوزيّة المصارف وبعض الصرّافين، فوجد في ذلك سبباً منطقياً لتأجيل تفعيلها إلى 16 نيسان، من خلال بيانين وجّههما إلى الصرّافين والمصارف في 22 آذار، حضّهما على ضرورة الاشتراك في المنصّة في مدّة أقصاها 16 نيسان المقبل، وفُسّر ذلك بأنّه موعد محسوم لانطلاقة العمل بها. لذا سيزيد التأجيل مرة أخرى من حنق رئاسة الجمهورية على سلامة، ويضاف إلى هذا الحنق حنق آخر يخصّ التّهم التي تُوجّه إلى سلامة بعرقلة التحقيق الجنائي وتأخير انطلاقه.
وثانياً: لأنّ احتساب المبالغ في “البطاقة التموينية” المدعومة من قرض البنك الدولي، التي تأخر إطلاقها ويعوّل عليها مصرف لبنان من أجل وقف دعم السلع الرئيسية، مرتبط مباشرةً بسعر صرف الدولار. فالمركزي أصرّ على دفع هذه المساعدات بالليرة اللبنانية من أجل الاحتفاظ بالدولارات، لكن موافقة البنك الدولي على ذلك كانت مشروطة باحتساب المبالغ بطريقة من اثنتين: إمّا على سعر متوازن في “السوق السوداء” (constant real exchange rate)، وإمّا على سعر منصّة “صيرفة” (3900 ليرة) التي تُعدّ أعلى سعر رسمي، يُضاف إليها 60%. وانتهى قرار البنك الدولي بالدفع بالدولار للمحتاجين.
وفي كلّ الحالات، يكون “المركزي” بين نارين، فلا هو قادر على اعتماد سعر “السوق السوداء” المتفلّت وغير المنظّم، ولا البنك الدولي وافق على سعر المنصّة الحالي 3900 ليرة لأنّها بعيدة جداً عن سعر السوق. ولهذا يكون الحلّ المتاح لمصرف لبنان هو التدخّل في السوق الموازي من أجل خفض سعر الصرف قدر المستطاع، لأنّه بذلك سيضخّ ليرات لبنانية أقلّ.
لكن وسط هذا كله، يُطرح بقوّة سؤال آخر: ماذا لو تأخّر تشكيل الحكومة الذي يربط به “المركزي” مسألة تفعيل المنصّة؟
الإجابة عن هذا السؤال تُختصر باستنتاج بديهيّ: ارتفاع كبير في سعر الصرف.
في حينه، سيعجز التجّار والمستوردون عن الانتظار أكثر من 16 نيسان، وسيعودون إلى دولارات الصرّافين لتمويل استيرادهم، وخصوصاً مع بداية شهر رمضان. وهذا الأمر سيكون كفيلاً بعودة عقارب الساعة إلى ما قبل الحديث عن المنصّة… أي إلى يوم كان سعر الصرف يدور في فَلَك الآلاف الـ15.
عماد الشدياق في موقع “أساس”