خلال أوّل شهرين من العام الحالي، لم يشترِ اللبنانيّون في جميع أنحاء الجمهوريّة سوى 62 سيّارة جديدة فقط، مقارنةً بنحو 1.876 سيّارة في أوّل شهرين من العام الماضي. وقِس على ذلك. 62 سيارة في شهرين، أي يمعدّل سيارة يومياً، مقابل 31 سيارة يومياً العام الماضي (2020)، ومقابل 60 سيارة يومياً في 2019، وربما نصل إلى سيارة شهرياً العام المقبل، أو تتوقف تجارة السيارات حتّى.
فقد بلغ عدد السيارات الجديدة التي استوردها لبنان في 2020 نحو 6.152 سيّارة جديدة مقارنة بـ21.991 في 2019. بتراجع نسبته 96.7% هذا العام، و49.89% في العام الماضي، عاكساً انحساراً تدريجياً وقاسياً في قدرة اللبنانيين على استيراد السيارات وشرائها. وهذا سببه تدنّي قيمة الأجور مقارنة بثمن السيارات الجديدة إثر أزمة سعر الصرف، وانعدام قروض التجزئة المصرفيّة بسبب الأزمة التي يمرّ بها القطاع المالي حاليّاً. وإذا استمرّ استيراد السيارات الجديدة بالوتيرة نفسها خلال الفترة المقبلة، فسينخفض عدد السيارات المستوردة هذا العام إلى أقل من 400، وهو رقم منخفض لم يشهده لبنان سابقاً.
تظهر أرقام الجمارك اللبنانيّة، المتعلقة بكل صنف من أصناف الواردات، المؤشّرات البائسة نفسها. فاللبنانيون تخلّوا خلال العام الماضي عن ثلثي استيرادهم من الأحذية والقبّعات، بالإضافة إلى الملبوسات ومشتقات الريش والفرو والجلد. ولم يأتِ هذا الانخفاض الكبير في المنتجات المستوردة في مقابل ارتفاع الطلب على المنتجات المصنّعة محليّاً، بدلالة تراجع استيراد القماش الذي يُستعمل في صناعة هذه المنتجات بنحو 60%.
باختصار، ما عاد اللبنانيون، بفعل الأزمة، يشترون سوى الحدّ الأدنى المطلوب من الملبوسات، سواء تلك المصنّعة محليّاً أم المستوردة. وقد انخفض استهلاك المفروشات المستوردة والمنتجة محليّاً بنسبة مشابهة، إذ انخفضت واردات مشتقّات الخشب بنحو 61%، وانخفض بالنسبة نفسها استيراد الخشب الذي يدخل في صناعة المفروشات محليّاً.
لكلّ هذه الأسباب، انخفض إجمالي الواردات السنة الماضية إلى نحو 10 مليارات دولار حتّى نهاية شهر تشرين الثاني، في حين أنّ قيمة هذه الواردات كانت تتخطّى مستوى 17.89 مليار دولار في الفترة المماثلة من 2019. وتظهر الأرقام أنّ استيراد الهواتف الخلويّة تأثّر على نحو كبير بالأزمة، إذ انخفضت قيمة الهواتف الخلويّة المستوردة من 177 مليون دولار في 2019 إلى أقلّ من 60 مليون دولار السنة الماضية، بسبب إحجام قسم كبير من اللبنانيين عن تجديد هواتفهم إلّا عند الضرورة.
يمكن القول إنّ هذه الأرقام لن تمثّل نهاية المطاف بالنسبة إلى تراجع القدرة الاستهلاكيّة للّبنانيين. فرفع الدعم خلال المرحلة المقبلة، وإن لم ينتج عنه ارتفاع مباشر في سعر الصرف، سيؤدّي من الناحية العمليّة إلى زيادة النسبة التي يستنزفها الإنفاق على السلع الحيويّة من مداخيل اللبنانيين. مع الإشارة إلى أنّ رفع الدعم عن المحروقات، تحديداً، لن يؤدّي إلى ارتفاع أسعار مشتقّاتها فقط، بل سيرفع أيضاً أسعار السلع التي تدخل المحروقات في كلفة إنتاجها أو شحنها، بالإضافة إلى بعض الخدمات الأخرى ككلفة اشتراكات الكهرباء، مثلاً. وهكذا سيكون اللبنانيون على موعد مع المزيد من التآكل في قدراتهم الشرائيّة، والمزيد من الانخفاض في قدراتهم على الإنفاق على سلع استهلاكية غير أساسيّة كالملبوسات والهواتف والسيارات وغيرها.
أمّا الارتفاع الأخير في سعر الصرف فسينتج عنه حتماً المزيد من التراجع في جميع المؤشّرات التي تظهر تردّي القدرة الشرائيّة للمستهلكين. خصوصاً أنّ الأرقام الحاليّة تعكس أثر سعر صرف السنة الماضية وأوّل شهرين من هذا العام، ولا تعكس أثر الانخفاض الإضافي في سعر الصرف الذي حصل أخيراً.
ومن المتوقّع أن يؤدّي كل انخفاض إضافي في سعر الصرف مستقبلاً إلى تراجع أكبر في قيمة المداخيل مقابل أسعار السلع المستوردة. وتجدر الإشارة إلى أنّ رفع الدعم، من دون وجود رؤية لكيفيّة تعويم سعر الصرف وتوحيد أسعاره المتعدّدة ضمن هامش قابل للاستيعاب، وضمن النظام الماليّ نفسه، سيؤدي حتماً إلى ارتفاع إضافي في سعر صرف السوق الموازية نتيجة انتقال الطلب على الدولار إلى هذه السوق.
منذ أن دهمت الأزمة الاقتصاديّة يوميّات اللبنانيين، تركت أثرها القاسي على مختلف جوانب أنماط عيشهم، وهذا تحديداً ما تظهره مختلف أرقام الاستهلاك والاستيراد التي بدأت بالظهور في مطلع هذه السنة. فارتفاع الأسعار نتيجة انهيار سعر الصرف، وارتفاع معدلات البطالة وتراجع متوسط الدخل، وفقدان الثقة بالمستقبل مع عدم ظهور أيّ مؤشرات لحل قريب للأزمة، كلّها أسباب دفعت اللبنانيين إلى الإحجام عن الإنفاق قدر الإمكان، إلى حد اقتصار هذا الإنفاق على الحد الأدنى من الضروريات، كما تظهر الأرقام.
ببساطة، ودّع اللبنانيون أساليب الحياة القديمة، وأَقبلوا على أنماط جديدة عنوانها الشحّ والاكتفاء بالقليل الممكن فقط.
كلّ ما يجري اليوم ليس سوى جزء من آثار الأزمة الماليّة التي تصيب اللبنانيين. لكنّ المقلق في الموضوع هو توالي هذه التداعيات من دون وجود أفق زمنيّ واضح للحلّ، ومن دون وجود أيّ بوادر لمعالجة ماليّة جذريّة. وإذا لم تبرز إلى الواجهة أيّ معطيات جديدة، فمن الأكيد أنّ البلاد تتّجه تدريجيّاً لتصبح جمهوريّة فقر وبؤس، ومقبرة أحلام لجميع المقيمين فيها.
علي نور في “أساس ميديا”