إبراهيم درويش- العربي المستقل
عصفت الأزمات المتتالية من دون رحمة بلبنان، بما فاقم جملة من الهواجس الحقيقيّة حول مستقبله ومستقبل أبنائه، وحول سبل مواجهة سيل التحديّات، التي يواجهها هذا البلد.
وعلى وقع الدماء المتقاطرة على أرض الجنوب، وصولا الى بعلبك، لا زال البعض يسأل هل ستنشب حرب مع كيان الإحتلال؟
طبعا السّؤال في ظاهره مشروع، عندما نتحدّث عن عدوّ غادر ووحشي، وفي ظلّ نجاح القوّة والإرادة في فرض معادلات ردع واستنزاف، لكن في السؤال عيب، لناحية البنية والسياق. فمن يستطيع أن يثبت بالدلائل، أنّ لبنان تمكّن من أن ينجو من آثار الحروب التي شُنّت عليه؟ ومن يستطيع أن يثبت أن الحرب توقفت يوما؟
على الرغم من وضوح الصورة، لا زال المفهوم السائد حول الحرب، مفهوما تقليديا “دماء، ودمار، واحتلال، وأعداد كبيرة من الشهداء والقتلى، ومعركة، تشتمل على شتى انواع الأسلحة”.
في حقبة الغزو الثقافي والفكري، والعالم المشرّع أمام المشاريع التوسعيّة والإستعماريّة، في ظل سهولة وصول المعلومة، ولا سيما، تلك التي يملكها ويصنعها النافذون والمسيطرون على العالم الموازي، الذي نجح الى حد بعيد، في سجن كثيرين خلف قضبانه، يكمن التحدي في التمسك بالهويّة والقيم، والعادات الحميدة، وتسييج المجتمع في وجه الغزوات القذرة والمدسوسة، ركن أساس في المواجهة والتصدي.
وفي مقاربة التحدّيات التي يواجهها بلدنا، لا بدّ من التوقّف عند السؤال الذي طرحه رئيس وزراء بريطانيا وينستون تشرشل عن حال التعليم والقضاء، بعدما أخبره أحد مستشاريه خلال الحرب العالمية الثانية أن الطائرات النازيّة دمّرت المؤسسات والبنى التحتيّة، مؤشرا على أهمية المحاسبة وإحقاق الحقّ، والمحافظة على المستوى التعليمي، كأحد أعمدة استمرار بريطانيا لاعبا رئيسا على الساحة الدولية.
لا يمكن لأحد القفز فوق المخاوف التي تعترينا جميعا حول المسار التعليمي، ولا سيّما في ظل التحديّات الكبيرة، التي تلقي بظلالها على مختلف القطاعات المؤثّرة على مستقبل بلدنا، وهذا ما دفعني، في أكثر من مقال لأخط هواجسي، حول المستوى التعليمي، وحول سلوكيات وأدبيات جيل يواجه بعضه كمائن السوشيال ميديا بموبقاتها، بلا رقيب، ولا حسيب، ولا رقابة أهل تمد لهم طوق نجاة، فضلا عن تحوّل بعض المدارس الى مؤسسات تجارية استثمارية، تنازلت عن جوهر دورها ومهامها، والذي لا يقتصر فقط على الشقيّن الأكاديمي والتلقيني، بل يعنى بصناعة الإنسان، وبناء جيل مثقّف، واسع الأفق، يُرتَكَن اليه في تقليص مساحة السواد الآخذة في الاتسّاع في وطننا.
ولأنّ ما نحتاجه، أبعد بكثير من القيام بالواجبات، ولأنّ ما نحن بأمسّ الحاجة اليه، في ظل العجز، وحال الشلل في جسم الدولة المتآكل، هو المبادرة، لا يمكن، الا أن نقف في “العربي المستقل” بإجلال، واحترام، أمام أصحاب المبادرات، الذين يلقون حجرا في المياه الراكدة، ويحركّون الساكن، الذي يستحيل روتينا عفنا، ينهش أحلام وآمال، ومستقبل أطفال مثقلين بالتحديات، والصعوبات، والمسؤولية، وهذا ما يرغمني، الى عدم التردد والتلكؤ، في تسليط الضوء، وتوجيه التحية، وتعميم، النهج الذي تنتهجه ثانويّة البرج الدولية.
وللمرة الثانية في غضون أشهر قليلة، أجد يراعي مطواعا، للحديث عن نموذج ثقافي إجتماعي فني، توليه المدرسة إهتماما خاصا.
على مسرح الجامعة اللبنانيّة، التي تجابه باللحم الحيّ شتّى أنواع المخاطر، وتحت عنوان إحتفال الروضات السنوي وتخريج طلاب الروضة الثالثة، تزيّن الأطفال بألوان الفرح والأمل، وليرسموا ببراءتهم، وضحكاتهم التي استحالت لآلئ، يلامس شعاعها القلب، ليخبرونا، أن الغد المشرق آت، وأن الفرح في عيونهم، عصيّ على الإنكسار.
رقصوا، غنّوا، وجسّدوا في مقاطع مسرحيّة، الدور المحوري للعائلة، وعالجوا بمزيج من البراءة والعمق، خطورة التنمّر وعدم احتواء الأهل لأطفالهم، وعدم اصغائهم لاختلاجاتهم، ومشاكلهم التي قد تبدو تافهة للبعض، بما قد يدمّر الطفل، تحت مظلّة الأنا والشوفينيّة، التي تتعامل مع الطفل، على أنه منتج مادي، يتباهى القيّمون عليه بجودته، أو بغلافه الفاخر، بمعزل عن محتواه، وبمعزل عن العيوب التي تتنامى بداخله، حتى تصبح عصيّة على العلاج، الا بتدخل طارئ، وعمل جراحي، يأتي أحيانا، إن أتى، بعد فوات الأوان.
لم تكن خشبة المسرح، المساحة الوحيدة التي تجذب الأنظار في ذلك الصباح، بل كان مشهد الجمهور الذي يفوّت على العين فرصة الوقوع على كرسي فارغ، مبعثا للسحر والأمل، وهذه نقطة تحسب لمديرالمدرسة مفيد الخليل، لاختياره مسرح الجامعة اللبنانية، ولاصراره على ترصيع احتفالاته، بكوكبة من وجوه الأدب والثقافة والإعلام، ومن الفاعلين، والرياديين في المجتمع، إحتفاء وتكريما.
للمرة الثالثة، التي أكون فيها في صفوف الحاضرين والمشاركين، ينجح الاستاذ مفيد الخليل، بإقناعي بأن التعليم لا زال بخير، وبأن المرتيّن السابقتين، كانتا حلقة، في سياق نهج يحذوه على رأس طاقم تعليمي، يقوم بمهامه بحب وتفان، منذ زمن.
ليس بعيدا مني، كانت مسؤولة قسم الروضات الأستاذة فاطمة السلمان، تتابع كل تفصيل، بحماس وشغف، تردد ما تخشى أن يستتر خلف جدار ذاكرة الطلاب الممثلين من جمل، وكلمات، تغضب، فتبتسم، فتضحك، فتصفّق، وتحيط أطفالها بالدعم والثقة.
بمحاذاتي تماما، طفل لم يرفع القناع الواقي عن وجهه، الا للمشاركة في العرض، طفل ينضح حبا وفرحا، شاء القدر ان يكون أبطال المواجهة مع ذلك “الخبيث”، صفّق له الجمهور بحرارة وبحب، فردّ التحيّة بأحلى منها. إبتسامة تلك الطفل، كانت كفيلة بأن تهزّ الحاضرين، وتذكّرهم بالنعم المجهولة، ولتوسم الحفل، بعبارة “بالإرادة والإصرار والعزيمة والمقاومة، نحن أعصياء على الإنكسار، ومعا سنعبر، رغم وعورة الطريق”.