إبراهيم درويش- العربي المستقل
واحدة من العراقيل الحقيقيّة التي وقفت في وجه الدول العربيّة ومنعتها من ترويض التحدّيات، وبناء مجتمعات حقيقيّة متماسكة، قادرة على التصدّي لمشاريع التفتيت والتّقسيم، والأزمات المتلاحقة، غياب الرؤية والتخطيط المسبقين، للتعاطي مع المتغيّرات، على الرّغم من أنّ تاريخ المنطقة حافل بالتجارب التي يجب الإرتكاز اليها، للإستعداد والتحصّن لمواجهة الأزمات الواقعة، أو الأزمات المحتملة.
ومن هنا، يبقى العروج على محطّة من إحدى محطّات التاريخ مهمّة جدا، في مقاربة التعاطي العربي مع الاحتلال العثماني للمنطقة العربية، والثقة المفرطة التي منحها العرب والشريف حسين لبريطانيا في تلك الحقبة، ما جعل العرب وقودا، في معركة الانتقال من حقبة الاحتلال العثماني، الى حقبة الإنتدابين الفرنسي والبريطاني.
وبعيدا من البحث في طبيعة وأشكال الاستقلالات العربية، التي تحتفل بها بعض الدول كل عام، من دون المسّ، أو الإنتقاص من الدماء المتقاطرة، ومن أبطال حقيقيين واجهوا الاحتلال والانتداب ببسالة وبقوة، لا بدّ من الإشارة الى أنّ الخلل مرتبط بالقراءة الاستراتيجية، وبفهم روابط ودعائم الأمن القومي، وسبل عدم الغرق في تفاصيل ما بعد الإنجاز، وسبل عدم السماح لأصحاب النفوذ والمشاريع باستثمار الطاقات الموجودة والكامنة، على اعتبار أنّ دول هذه المنطقة لا يمكن إلا أن تكون دولا وظيفيّة، ولا يمكنها أن تحافظ على أمنها، من دون ولاءات وارتباطات، أو بالاحرى من دون الحاجة الى كفيل وراع يحميها ويرسم لها أطر السياسات الخارجيّة وحتى بعض هوامش سياساتها الداخلية، وهذا ما يمكن أن يجيب عن الأسئلة التي تطرح دائما حول دور الدولة العميقة في بلد ما، بعدما انتهت الإحتلالات المباشرة، وباتت مجموعة من أصحاب النفوذ هي المولجة بتطبيق السياسات الخارجية المرسومة، والمحدّدة، والتي أرفقت بأدوات وأجهزة، ومراكز، ووسائل إعلام، وموروثات ثقافيّة نجحت الى حد بعيد، في اختراق المنظومات المتوارثة، وأدخلت مفاهيم هجينة، انعكست على الرؤى الاستراتيجيّة والاقتصاديّة وحتى الشعبية.
وبعيدا من الغرق في أوجه الإختلاف والتماثل بين الحقبات التاريخيّة، والواقع الذي نعيشه، لا يمكن أن نقفز فوق وضع المنطقة العربيّة مجتمعة، أو حتى وضع البلدان العربيّة كل على حدة، حيث تنقسم الدول بين غارقة بأزماتها الأمنيّة والإقتصاديّة والسياسيّة والدستورية، وأخرى أُفقِدت من وزنها ومن دورها، وباتت ملحقات بالسياسات الدولية، على حساب أمنها القومي والاستراتيجي وتناغم إمكانياتها، مع ثقلها وتأثيرها في الساحتين الاقليمية والدولية.
ومن هنا يمكن فهم تحوّلات كبيرة شهدتها المنطقة، على مستوى الصراع مع كيان الاحتلال الاسرائيلي، فبمعزل عن سياق الحرب والعدوان الوحشي على قطاع غزة، وما ستخلص اليه هذه الحرب، من نتائج، يمكن تقسيمها الى نتائج مباشرة ونتائج غير مباشرة بعيدة الأثر والأمد، لم يكن أكثر المتفائلين من المحللين والمناصرين والمندفعين، يتوقّع أن تقوم المقاومة الفلسطينيّة، بما قامت به في السابع من أكتوبر، جوّاً وبرَاً وبحراً، وهو ما لن ينجح كيان الاحتلال ا، في محو آثاره ونتائجه من نواحِ عدة، كنت ذكرتها في مقابل سابق، على الرغم من الخسائر الفادحة على مستوى البشر والحجر، وعلى مستوى مقوّمات ومستقبل الحياة في القطاع، وهو ما يحتاج الى بحث عميق، وارتقاب لما ستخلص اليه الحرب الدائرة هناك.
اذا، نحن أمام متغيّرات كبيرة، مرتبطة ، بعجز الكيان عن الحسم العسكري وعن استعادة الاسرى، وعن لجم قدرات المقاومة في قطاع غزة، ووقف العمليّات في الضفة الغربية، تضاف اليها، ازمتا المستوطنين في الشمال وفي غلاف غزة، وتضعضع الثقة بقدرة الردع لدى الجيش الاسرائيلي، فضلاً عن تهشّم الصورة العسكريّة لجيش، بات يحتاج الى كل هذه الدماء من جثث المدنيين، والى كل هذا الركام، من دون أن يتمكن بعد ستة اشهر من الحديث عن انتصار، أو عن إنجاز عسكري، وفي الحد الأدنى إستعادة الاسرى، فضلا عن ضيق مساحة الهوامش الأميركية الممنوحة لنتنياهو لانجاز المهمة، قبل دخول الانتخابات الرئاسية في الولايات المتحدة المرحلة الاكثر دقة، والتي يحتاجها بايدن ان تكون بدماء أقل، يضاف الى كل ذلك، الأصوات المرتفعة في وجه ممارسات الكيان، ومثول الكيان أمام محكمة العدل الدوليّة، والضربات المتواصلة من حزب الله والتي لم ينجح الكيان، في ايجاد مخارج وسبل مناسبة للتعاطي معها او للحد من تأثيراتها لا عبر الترهيب ولا عبر الترغيب. كل ذلك يترافق مع أزمة سياسيّة داخليّة، وأزمة متفاقمة للحريديم والسفارديم مع التجنيد الإجباري، فضلا عن الهجرة المعاكسة التي بدأ يشهدها الكيان منذ ما قبل طوفان الاقصى، وانتفاء مزاعم ان الكيان، هو الدولة القادرة المحصّنة أمنيا واقتصاديا، والقادر على إدارة المصالح الأميركية والغربيّة في المنطقة بعيدا من التهديدات، بعد أن بات تحت مرمى ضربات متواصلة من لبنان والعراق واليمن، فضلا عن ازدياد الهواجس، مما يمكن أن تشهده الساحة الاردنية، في ظل غليان جماهيري متزايد، والحديث عن جبهة مقاومة، اتخذت طور التشكّل، بما يستكمل الطوق على الكيان وفي نقاط شديدة الحساسيّة والتأثير. كل هذا، يمكن أن يشرح حاجة نتنياهو تحديدا، الى ما كنا تحدثنا عنه في بداية المعركة، من خيار ترحيل الأزمة الى الخارج، ومحاولة توسيع دائرة المواجهة، وتوريط ايران وجر الولايات المتحدة الى معركة لا يريدها، أقلّه حاليا، ولا يريدها بجنوده وبمصالحه المباشرة.
إنطلاقا، مما قاربته في السطور أعلاه، لا يمكن للمتابع، أن يغفل أنه وعلى أعقاب الاستهداف الاسرائيلي للقنصليّة الايرانية في سوريا، والحديث عن الرد من عدمه، والاسئلة حول طبيعة الردّ، لا بدّ من عدم تجاوز نقطة هاّمة، مرتبط بمعركة طويلة الأمد تخوضها جمهورية أطاحت بنظام وحكم كانا مطواعين، لا بل في خدمة المشروعين الاميركي والاسرائيلي، وأدركت كيفية التعامل والالتفاف على عقوبات وحصار منذ 45 عاما، وساهمت في تشكيل محور، تخوض مكوّناته مواجهات مباشرة مع الولايات المتحدة الاميركية (اليمن ومعارك البحر الاحمر) وتستهدف قواعده ( في العراق وسوريا) فيما تواصل جميع هذه القوى ضرب مشروعها الاستعماري (كيان الاحتلال)، وعمليا وواقعيا، تسجّل الوقائع أن المعركة اليوم هي على أرض “إسرائيلية” (مستعمرات ومستوطنات فلسطينية محتلة)، وكيان الاحتلال من يخوض مباشرة هذه الحرب، مع قطاع محاصر، ومقاومة محاصرة، ولا ينجح، في حسم هذه المعركة، وبالتالي، فإن الرد من عدمه في التوقيت والمكان والشكل والطبيعة والحجم، بطبيعة الحال لا يمكن أن ينطلق من حسابات لحظويّة او شعبويّة او عاطفيّة، يمكن أن تعرقل الهدف المنشود، والذي حمل الكثير من المتغيّرات، على الساحتين الإقليميّة والدولية.
وهنا لا بد من التذكير أن هذه المنطقة كان تقاتل الكيان بالزيت والماء والمغليين، وكان أطفال فلسطين يقاتلون بالحجارة، على اراضيهم، واليوم نقلت المعركة الى الاراضي التي اعتبرها الكيان والولايات المتحدة ، مساحات آمنة، فاذ ان الواقع الحالي خط بالدم وبالصبر والارادة “لا أمن لكم، ما دام لا أمن لنا”، وبان الألحة والتكنولوجيا لا زالت قادرة على التدمير والقتل، لكنها لم تجد سبيلا لقتل الإرادة، وحرف الروح عن مسارها.