إبراهيم درويش- العربي المستقل
واحدة من المعارك الضارية التي يخوضها كيان الاحتلال مع حركات المقاومة، “حرب الإعلام والصورة”. حرب لطالما استفاد منها العدو ليوهن العزائم، وليثبّت صورة نمطيّة عن استعداداته وجهوزيته، كما لطالما وظّفها، في مرحلة ما بعد الحرب لصنع واقع يناسبه، وليخرج بصورة المنتصر، عسكريا واعلاميا، وهذا ما يتجسّد بحجم الدمار الهائل الذي يعمد جيشه الى إحداثه في الحروب التي يخوضها، وتحديدا في الفترة التي تسبق أي وقف لإطلاق النار، أي في الربع ساعة الاخير من المعركة.
وفي مسعى لفهم أهمية الصورة، من المفيد الإرتكاز الى تجارب سابقة، شكّلت نقاطا مفصليّة لناحية دور الصورة، وهذا ما يعيدنا الى الى ما قاله الرئيس الاميركي السابق ليندون جونسون حول حرب فيتنام، عندما اعتبر أنّ الصور المرعبة كانت سببا في خسارة حرب فيتنام (1945)، بسبب الاهتزاز الذي احدثته في الرأي العام الاميركي.
وبطبيعة الحال، ولكون سياسات دول الاستعمار تحيط حروبها، بالدراسات المسبقة، وتهيئة الأرضية، ومحاولة صناعة رأي عام وبروباغاندا متناسبتين مع مشاريعها، من المفيد العودة ايضا الى إعتماد بريطانيا في حرب الفوكلاند على 29 مراسلا ومصورا وفنيا جابوا بحر الارجنتين على ظهر السّفن البريطانيّة، وتحت الرّقابة والتّوجيه العسكرييّن.
وبناء على ما ذكر، ولفهم أعمق لأهميّة الصورة ودور الميديا، لا بدّ من التوقّف عند التساؤل المتواصل، حول سبب غياب أي مشاهد موثّقة، لقتلى الحادي عشر من سبمتبر، ولا لقتلى كيان الاحتلال الاسرائيلي على امتداد حروبه وعلى تنوّع العمليات التي استهدفت جنوده، في ظل سعيه الحثيث لإبعاد حتى الجرحى عن عدسات الكاميرات، فحتى لا نذكر اننا شاهدنا يوما، مقطعا مصوّرا لدفن جنود اسرائيليين، أو تغطية ومواكبة لمعاناة أو لحديث ذوي قتيل سقط خلال القتال.
من العوامل التي تثير جنون كيان الاحتلال، الصورة التي تبدّلت وتغيرت بدءا مما كرّسه الإعلام الحربي للمقاومة في لبنان، الذي عمل على توثيق العمليات العسكرية، يوم نجحت المقاومة في إقتحام المواقع التي يسيطر عليها العدو، ورفع أعلام لبنان وحزب الله على أعلى نقاطها، وبدأ العالم يرى صورا لأسراه وحتى لقتلاه وآلياته المعطوبة والمحروقة، التي تحوّل قسم منها الى مجسّمات عرض، شاهدة على تبدل المشهديّة، والتحول الكبير الذي تحقق، في هذه المواجهة.
ومن العمليات التكتيكيّة في جنوب لبنان، الى تاريخ السابع من اكتوبر، هذا التاريخ الذي عمل وسيعمل الكيان على محاولة محوه من الذاكرة، على الرغم من إدراكه أنه لم ينجح في ذلك، حتى لو حوّل غزة الى ركام وأباد جميع سكانها (وهنا نتحدث من الجانب العسكري والاستراتيجي، لا عن الجوانب الانسانية، التي ايضا لن تمحى من الذاكرة، وسيحاول الكيان جاهدا من دون سبيل محوها)، فما حصل في 7 تشرين الاول، إستكمل إفراغ أسطورة الكيان من مضامينها، بعد أن شاهد العالم كيف تمّ سحل جنوده وضباطه، وكيف أضرم مقاتلو المقاومة النار بالآليات العسكرية، وراحوا يقتلون جنود العدو، بأسلحة من تصنيع قطاع محاصر منذ العام 2007، وبأيدي مقاتلين، يلصقون العبوات بآليات فائقة التطور، على الرغم من فوارق التكنولوجيا، المدعّمة بأجهزة التجسس والاستشعار والرصد، والإعداد، والتجهيزات، والأحزمة النارية الجوية والبحريّة، وجسور الامداد الجوية والبرية، بما تشتمل من أسلحة وصواريخ، وقذائف، وقنابل مدمرة.
هذه الصورة لن تمحى، حتى وان كانت مشاهد القتل الممنهج، والتدمير العشوائي والمنظم، ومعاناة الاطفال، والشيوخ، قد طغت عليها، لكنها، ستعود حتما، لتطفو الى السطح، ما إن تفرغ جعبة الكيان من المحاولات والعبث، فهذه المعارك، تخاض بالنفس الطويل، والربح يكون بالنقاط، عبر خلخلة أعمدة هذه المشاريع، وهذا ما يدعمّه تنشيط الذاكرة حول فصول ممارسات الكيان تجاه المنطقة وشعوبها، وحول أدوات المواجهة التي بدأت بالحجارة وبالزيت المغلي، وتدرجت الى عملية الايلام المتبادلة، والمواجهة المباشرة، من دون ان نغفل عن الجانب الوحشي اللا إنساني، وتحلل هذا العدو من القيم والمعايير، و كل ما يوفّر له، لإطالة عمره، في وقت نجحت فيه المقاومة، بسلب العدو واحدة من أهم عناصر قوته، وهي امتلاكه الصورة وتفرّده بالسردية وقدرته على تحريف الحقائق، ما سيشكّل حجر الزاوية في المعركة الأكبر والاشد خطورة وحساسيّ، ومعركة الفصل، ومدماك مستقبل المواجهة يوم تسكت لغة الحديد والنار.