كحبٍّ أول يخذلنا

كاتيا البيروتي- العربي المستقل

أمشي بين شوارعه كتائهٍ يبحث عن أمّه التي تركته على عتبة حقلٍ فارغٍ من حياة.

تصادفني وجوه المارّة  المتعبَة والفارغة من بريق أملٍ والملءَ بكثيرٍ من الأسى.

أجول بين أزقّته وفي المقل دمع لم يبح بلوعة الحسرة المفرِطة لفِراق وطن، لغربةٍ في هذا الوطن.

لبنان الذي لم نعد نعرفه،

لبنان الذي بدّل ملامح أبنائه تعباً وإرهاقاً ما سلمت من براثن السلم، وهي المكفهرّة وجوهها من حربٍ لم تنتهِ فصولها.

 من خلف الشبابيك أنظر إلى جارٍ مثقلٍ بهموم معيشةٍ لم يعد قادراً على تأمين حاجيّاتها، يجرّ رجليه من عبئها، على الرّغم من فراغ جيوبه وأكياس الطعام.

أرى ولداً يلعب في أزقّة الأحياء راكضاً بقلّة عزمٍ خلف كرةٍ باتت بالية لا تلبّي مهاراته؛ لأن والده لم يعد قادراً على شراء واحدةٍ أفضل.

 ومن بعيدٍ يتناهى صوت بكاء تلك الفتاة التي تأجّل زفافها مراراً على مدى عام؛ لأنّها وخاطبها لم يستطعا بعد تأمين قسط المنزل.

أما صراخ جابي الكهرباء وجابي المازوت وجابي المياه وتشاجرهم مع أصحاب المنازل فذلك مبحث آخر ووجهٌ جديد لمواجهات الشعب مع الدولة بأسلوب ملتوٍ.

فيما يتناهى إلى السّمع، مع سكون اللّيل وظلمة المنزل -في ظل انقطاع التغذية الكهربائية-عبارات آخر النهار من أمٍ وأبٍ يتهامسان بكلامٍ يشبه: “أيام الحرب ما عشنا  اللي عم نعيشه”…فأيُّ حربٍ تلك وأيّ زمنٍ هذا الذي نعيش؟

وفي رحاب التطوّر العلمي والتكنولوجي، تتراجع عقارب الساعة اللّبنانية إلى الوراء، تقفز إلى المستقبل المتخلّف عن ركب الحضارة التي كانت هويته منذ ما قبل الحداثة والتاريخ،

هذا اللّبنان الذي صدّر حرفاً وحضارةً يتسوّلها اليوم بأبسط مقوّماتها…متبدلّا وجهه العربي والفينيقيّ إلى دويلات أحزابٍ متفرّقة الهوية ومتناحرة، غيّرت كلّ معلمٍ ثقافيٍّ متطوّرٍ نعرفه.

فأصبح غريب الثقافة والفن والعلوم والتقدّم والازدهار، صناعيّاَ وزراعيّاً وفي مختلف ميادينه، حتى تلك السياحيّة الرياديّة. فهجرته الأدمغة وغادرته المبادرات.

أتبدّل لبنان أم أنّنا نحن من بقي على حاله، راضخاً لأموره الواقعة على أحلامنا ومستقبلنا؟!

أهربُ من هذا الوطن إليه،

أبحث عن مساحته الخضراء لأحتضنني فيها، فلا أجد تلك المساحة ولا أجده، بل أضيع في خرابه أكثر.

 أشتاق إلى صوت الضحكات التي تصدح في أرجاء الحيّ مساء كل عطلة أسبوعية، عند اجتماع العائلات،

أشتاق لمنظر البراري المكتظّة بألوان الربيع وصريخ الأطفال، وبائعي الكرابيج ودواليب الهواء، وعربة الفول.لكنها باتت ذكريات ماضٍ غير بعيد.

أهو الوباء من عاث فينا تبدّلاً أم بلاء هذه الطغمة الحاكمة؟!

لم يتغيّر زحام الناس في الأماكن العامة، بل ربّما ازداد، لكن حكماً تغيّرت ابتساماتهم وتبدّل صوت ضحكاتهم، وبهتت ألوان وجوههم، تماماً كما تبهت بنية هذه البلاد يوماَ بعد يوم.

كحبٍّ أول يخذلنا، كذلك هو هذا الوطن.

ومهما حاولنا أن نكره ما هو عليه، أحببناه أكثر،يأبى مفارقتنا، بل يستوطن تصدّع قلبنا الهشّ.

لم نعد نعرفه، وربّما سيظلّ غريباً ما حيينا، لكنّه جزءاً من كينونة وجودنا، إذا ما رحل انتهينا وإذا ما فارق روحنا فقدناها.

تضادّ مشاعرٍ وصراعٍ  يومي نعيشها في كنف هذه البلاد، نصارع للبقاء، ولعيش الحياة فيه كالحياة، مع أملٍ أو من دونه، نمضي في شوارعه أغراباً، نتلمّس من أزقّتها بضعة ذكريات تساعدنا على الاستمرار، ولو بشقّ النّفس.