الديار : إذا إستمرّ تعطيل عمل الحكومة… سيناريوهات عدة أحلاها مرّ

كتبت صحيفة ” الديار ” تقول : تنصّ مهام الحكومات، كما تُعرّفها النظرية الإقتصادية، على تنظيم عمل الماكينة الإقتصادية وإقرار ‏التشريعات المناسبة والرقابة على تطبيق هذه التشريعات. وإذا ما نظرنا بالعمق إلى الأهداف ‏الإقتصادية للحكومات، نرى أن هذه السياسات الحكومية تهدف إلى رفع الناتج المحلّي الإجمالي مع ‏الأخذ بعين الإعتبار المُعطيات الإجتماعية والبيئية، وهو ما يُعرف بالإنماء المُستدام الذي حدّده برنامج ‏الأمم المُتحدة للإنماء بسبعة عشر مؤشراً تسمح بقياس تطور البيئة الإقتصادية والإجتماعية والأوضاع ‏البيئية‎.‎
الثبات السياسي والأمني
إلا أن عمل الحكومات يواجه تحديات عدة لعلّ أهمها الثبات السياسي إضافة إلى غياب الرؤية الواضحة ‏في التنظيم والتشريع الإقتصادي. سياسيًا، الثبات السياسي الذي يُقاس بعدّة مؤشرات منها عمر الحكومات، ‏النزاعات الداخلية، النزاعات مع الخارج، التشنجات الطائفية، الفساد، وعسكرة النظام… هو عنصر ‏أساسي في عمل الحكومات الإقتصادي نظرًا إلى أن أي خطّة إقتصادية تحتاج إلى ثبات سياسي بهدف ‏تنفيذها في ظل تفادي تعطيل عمل الحكومة التي تمتلك حصرية القرار الإقتصادي.‏
لم تشهد الحكومات المُتعاقبة في لبنان منذ العام 2005 وحتى يومنا هذا أي ثبات سياسي بحسب البيانات ‏التاريخية. فتراكم الأحداث من إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري إلى الأزمة مع دول الخليج مرورًا ‏بعدوان تموز 2006، وأحداث 7 أيار، والفراغ الرئاسي، وبدء الأزمة السورية، وتفجيرات العامين 2013 ‏و2014، والفراغ الرئاسي الثاني، وحادثة قبرشمون، وإحتجاجات 17 تشرين، وجريمة مرفأ بيروت، ‏وأحداث الطيونة… كل هذه الأزمات ربطت الإقتصاد بالأحداث السياسية والأمنية وجعلت المواطن ‏اللبناني يدفع ثمن عدم الثبات هذا سواء من حياته (جريمة المرفأ مثلًا) أو من مستوى معيشته (ضرب ‏القدرة الشرائية وفلتان سعر الدولار مثلًا). وبالتالي يُعتبر غياب الثبات السياسي عنصرًا أساسيًا في ‏الوضع المأساوي الذي وصل إليه المواطن اللبناني.‏
الأزمة الحالية التي تعصف بالحكومة والتي تُرجمت بتعطيلها، لها بعدان: أحدهما مُتعلّق بتحقيقات جريمة ‏مرفأ بيروت، والآخر مُتعلّق بتصريحات الوزير جورج قرداحي. وتُشير تصريحات المسؤولين إلى أن ‏الأزمة مُرشحة إلى الإستمرار إلى آمدٍ غير معروف خصوصًا أن البعض أصبح يُشكّك حتى بحصول ‏الإنتخابات النيابية في الفصل الأول من العام المقبل.‏
عمليًا، هذا التعطيل سينسحب على الواقع الإقتصادي والمعيشي خصوصًا أن عملية تآكل الليرة اللبنانية ما ‏زال مُستمرة أمام سوق سوداء – لا يُمكن القول عنها إلا أنها الفساد بحد ذاته – وأمام إحتكار وتهريب ‏مُستمرين على قدم وساق وغياب أي إجراء من حكومة الرئيس ميقاتي تجاه هذا الواقع الآليم، وكأنه ‏إستمرار لسيناريو حكومة تصريف الأعمال السابقة، فإن ترجمة هذا الواقع الأليم سيكون على عدّة ‏مستويات، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:‏
أولًا – الإستمرار في طبع العملة لتغطية عجز الموازنة ولتأمين السيولة المطلوبة للسوق في القطاعين ‏العام والخاص، وهو ما يُشكّل خسائر يتحمّلها كل المواطنين اللبنانيين سواء بتردّي مستوى معيشتهم أو ‏من خلال فقدان قيمة مدخراتهم وودائعهم؛

ثانيًا – زيادة نسبة الفقر المتصاعدة بشكل خطير مع ضرب لهيكلية المُجتمع اللبناني خصوصًا الطبقة ‏المتوسطّة التي إضمّحلّت لصالح الطبقة الفقيرة. وإذا كان المسؤولون يتغاضون في تصريحاتهم عن واقع ‏الفقر، إلا أن تقرير الإسكوا الأخير أشار بكل وضوح إلى أن 40% من الأسر اللبنانية تعيش في فقر مُدّقع ‏‏(أقلّ من 1.9 دولار أميركي في اليوم للفرد)، وأكثر من 70% من الأسر في فقر عام، و82% من الأسر ‏في فقر عام إذا ما أخذنا الأبعاد الصحية والتعليمية؛
ثالثًا – إضعاف موقف لبنان في ملف المفاوضات مع صندوق النقد الدولي الذي ينتظر الحكومة لبدء هذه ‏المفاوضات. هذا الضعف يأتي من فقدان المصداقية في تنفيذ الوعود من قبل لبنان ولكن أيضًا من باب ‏زيادة الخسائر التي تُترّجم بالدرجة الأولى في التضخّم!‏
رابعًا – هجرة العنصر الشبابي والذي يُشكّل حجر الزاوية في أي عملية تعاف مرتقب أو نهوض للبنان ‏حيث أن هذه الهجرة ستحرم الماكينة الإقتصادية من أهم عامل فيها وهو اليد العاملة الكفوءة عملًا بمُعادلة ‏كوب-دوغلاس المتعلقة بالناتج المحلي والمرتبطة بعوامل ثلاثة، رأس المال، والعمالة، والتطور ‏التكنولوجي (‏Output=f[K,L,T‏])؛
خامسًا – فقدان لبنان لمكانته الإستراتيجية لصالح بعض الدول المُجاورة على حساب لبنان وهو ما سيكون ‏له تداعياته على صعيد الماكينة الإقتصادية؛
سادسًا – التأخير في عملية إستخراج الغاز الطبيعي القابع في المنطقة الإقتصادية الخالصة التابعة للبنان ‏مع ما لذلك من تداعيات على صعيد الإنماء المُتوقّع من عملية الإستخراج هذه؛
سابعًا – إنسحاب للإستثمارات الأجنبية المباشرة من لبنان وهو ما يُشكّل ضربة للمواطن اللبناني قبل كل ‏شيء على مثال شركات الأدوية في لبنان أو غيرها، بالإضافة إلى إنسحاب الإستثمارات المالية الأجنبية ‏‏(إذا ما إستطاعت!).‏
الثبات الإقتصادي والحكومات اللبنانية
في فرضية أن هناك ثباتًا سياسيًا وأمنيًا، يواجه عمل الحكومات تحدّيان أساسيان على الصعيد الإقتصادي:‏
التحدّي الأول – التوازن الداخلي وهو ما يُمكن ترجمته بالتوظيف الكامل (‏Full Employment‏)، ‏وثبات الأسعار (‏Price-Level Stability‏). فالعمالة الناقصة أو الإفراط في العمالة تؤديان إلى ‏تحركات في مستوى الأسعار مما يؤدّي إلى الحد من كفاءة الاقتصاد. أما ثبات الأسعار فهو أساسي في ‏اللعبة الإقتصادية وهو ما يفرض على الحكومات منع التحركات الكبيرة في إجمالي الطلب بالنسبة ‏لمستوى التوظيف الكامل، والتأكد من أن المعروض النقدي المحلي لا ينمو بسرعة مضرة ولا ببطء شديد.‏
التحدّي الثاني – ويتمثّل بالتوازن الخارجي وهو ما يُمكن ترجمته بحساب جارٍ مُلائم، حيث أن عجزًا كبيرًا ‏في الحساب الجاري هو نتاج خطأ في السياسة الحكومية ويؤدّي إلى رفع الإستهلاك وبالتالي يمتنع ‏المُستثمرون عن الإستثمار في الإقتصاد. أما الفائض الكبير في الحساب الجاري، فإنه يؤدّي أيضاً إلى ‏إنخفاض في الإستثمارات…‏
في الواقع كل ما ورد أعلاه، يُمكن تلخيصه بمؤشّرين: عجز الموازنة وعجز ميزان المدفوعات أو يُعرف ‏بالعجز التوأم (‏Twin deficit‏).‏
في لبنان عجز الموازنة مُزمن منذ تسعينات القرن الماضي وحتى يومنا هذا، كذلك الأمر بالنسبة لميزان ‏المدفوعات. وإذا كان الهدف الرئيسي لصندوق النقد الدولي مُساعدة الدول الأعضاء في حل مشاكل ‏ميزان المدفوعات، فلا يُمكن أبدًا للمسؤولين اللبنانيين القول بأنهم تفاجأوا بالأزمة نظرًا إلى أن عجز ‏ميزان المدفوعات يؤدّي حكمًا إلى الإنهيار إذا ما إستمر إلى فترات غير قصيرة.‏
إذًا ومما تقدّم، تتحمّل الحكومات المُتعاقبة – إلى يومنا هذا – مسؤولية الوضع الذي وصلنا إليه ولا يُمكنها ‏نكران هذه المسؤولية نظرًا إلى أن نكران مسؤوليتها يعني أن هذه الحكومات غير كفوءة والإعتراف ‏بالمسؤولية هو واجب مهني وأخلاقي لبدء صفحة جديدة.‏
مكافحة الفساد
إحد الأسباب التي تؤدي إلى غياب الثبات السياسي هو تفشّي الفساد. هذا الفساد الذي قدّرناه في العام ‏‏2015 بأكثر من عشرة مليارات دولار أميركي سنويًا، منع الحكومات من القيام بمهامها نظرًا إلى أن ‏المُهِمَتَيّن الإقتصاديتين الأساسيتين للحكومة – عنيت الحفاظ على توازن الميزان الداخلي وتوازن الميزان ‏الخارجي – كانتا غائبتين سواء جراء منع الإجراءات اللازمة أو الإتيان بأشخاص لا يتمتعون بالمهارات ‏الكافية لهذه المهمة.‏
عمليًا الفساد طال كل مؤسسات الدولة اللبنانية وعلى رأسها أجهزة الرقابة التابعة للسلطة التنفيذية. إلا أن ‏فقدان السيطرة على الفساد بدأ مع تدخّل السلطة التنفيذية بعمل القضاء وهو ما شلّ حركة هذا الأخير ‏وبالتالي منع محاسبة الفاسدين على الرغم من معرفة القضاء بهذا الفساد وتلقيه شكاوى في العديد من ‏الحالات. وما تقرير ديوان المحاسبة، في الأمس القريب، عن 27 مليار دولار أميركي مجهولة المصير ‏في حسابات الدولة اللبنانية وعدم تدخّل القضاء والنظر في هذا الإخبار العلني الصادر عن إحدى الدوائر ‏الرسمية إلا دليلًا قاطعًا على شلّ حركة القضاء.‏
تُشكّل المفاوضات مع صندوق النقد الدولي بابًا لإستعادة السيطرة على الفساد وذلك من خلال إرساء آليات ‏في عمل المؤسسات العامة تكون مبنية على الحوكمة الرشيدة وعلى المحاسبة. وهو ما يعني بعبارات ‏بسيطة فصل السلطات، مكننة المؤسسات، تفعيل عمل الأجهزة الرقاببية، وضمان المساءلة من خلال ‏إستقلالية القضاء.‏
وبالتالي تُعتبر هذه المفاوضات عنصرًا أساسيًا في عملية مكافحة الفساد ومع ذلك فإن هذه العملية في ‏خطر نتيجة التعقيدات التي قد يضعها البعض أمام سير هذه المفاوضات. من هنا تتخوّف العديد من ‏عواصم القرار – وعلى رأسها الولايات المُتحدة الأميركية – من عدم قدرة لبنان على مكافحة الفساد وهو ‏ما جعلها تبدأ بإتباع منهجية تصعيدية مع زيادة عدد المعقابين بحسب قانون ماغنتسكي العالمي حيث تمّ ‏إدراج أربعة أسماء شخصيات لبنانية على لائحة العقوبات في العامين 2020 و2021 وهو ما يُشكّل ‏مؤشرًا واضحًا على الإهتمام الدولي بلبنان ومكافحة الفساد فيه.‏
وبحسب تصريحات المسؤولين الأميركيين، فإن الإدارة الأميركية ستستهدف كل شخصية ساهمت أو ‏تُساهم في الفساد في لبنان بالإضافة إلى شخصيات سياسية “عطّلت الحلّ السياسي في لبنان” بحسب ‏الإدارة الأميركية. وتُشير المعلومات الى أن إستراتيجية الإدارة الأميركية تنصّ على ضرب بيئة الأعمال ‏الفاسدة في لبنان التي تُعتبر الأداة الأساسية في تنفيذ الفساد، حيث يبلغ عدد المُستهدفين ما بين 80 إلى ‏‏100 شخصية شاركت أو تُشارك في عمليات فساد تطال المال العام، وعمليات إحتكار وتهريب. وتٌشير ‏هذه المعلومات إلى أن دولا أوروبية تتعاون مع الولايات المُتحدة الأميركية في عملية رصد لحسابات ‏ونشاطات رجال أعمال وقضاة على فترة تمتدّ على أكثر من عشرة أعوام.‏
وبغض النظر عن الأبعاد السياسية التي قد ترافق هذه العقوبات التي قد تُفرض على هذه الشخصيات، إلا ‏أن الأكيد في الأمر أن القضاء اللبناني عاجز عن القيام بمحاسبة الفاسدين بسبب التدخل السياسي، وهو ما ‏يجعل من العقوبات الدولية باب الخلاص الأساسي – أو الوحيد حاليًا!‏