كتبت صحيفة “الجمهورية” تقول: حتى الآن، لم يستوعب الداخل اللبناني الصدمة السعودية التي قضت بإخراج لبنان من الحضن الخليجي، كما لم يتلمّس الممسكون بزمام الامور السبيل الذي يقودهم الى ردم الفجوة الكبيرة التي حُفِرت في جدار علاقة لبنان بالسعوديّة، وأسقطت هذا البلد في قطيعة أبعد من ديبلوماسية.
واذا كان رئيس الحكومة نجيب ميقاتي قد عاد من اسكتلندا مشحوناً بدعم دولي وحصانة لحكومته واستمرارها في تحمّل المسؤولية، فإن الاولوية في هذا المجال، كما تؤشّر الوقائع التي استجدت بعض التصعيد الديبلوماسي السعودي تجاه لبنان، هي لإعادة بعث الروح في الحكومة داخلياً واستنئناف انعقاد جلسات مجلس الوزراء التي تعطّلت لأسباب قضائية مرتبطة بالالتباسات التي أحاطت بالتحقيق العدلي في انفجار مرفأ بيروت.
وعلمت “الجمهورية” في هذا السياق ان الرئيس نجيب ميقاتي، الذي عاد في وقت لاحق من ليل امس الى بيروت، سيزور اليوم رئيس الجمهورية العماد ميشال عون عند العاشرة صباحا، كما يزور رئيس المجلس النيابي نبيه بري عند الحادية عشرة والنصف من قبل الظهر قبل ان يعود الى السرايا الحكومية.
وعشية اللقاءين، قالت مصادر بعبدا لـ”الجمهورية” ان عون ينتظر ان يستمع من ميقاتي الى عرض مفصّل لنتائج اللقاءات الواسعة التي اجراها في غلاسكو على هامش قمة المناخ، وتحديداً ما جرى من مشاورات وما رافقها من مقترحات متبادلة مع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون ووزير الخارجية الاميركي انتوني بلينكن وامير قطر تميم بن حمد آل ثاني ونظيره الكويتي الشيخ صباح خالد الحمد الصباح وعدد من نظرائه الاوروبيين وباقي المسؤولين العرب والغربيين، وما يمكن الافادة منه بحثاً عن المخارج الممكنة.
ليونة حول الجلسات
وبحسب معلومات “الجمهورية”، من مصادر موثوقة، فإنّ المستجدات الخليجية الأخيرة وارتداداتها السلبية على الداخل اللبناني، فرضت تعديلا في الأولويات الداخلية، بحيث ان هذه المستجدات وما رافقها من اجراءات عقابية سعودية وخليجية تجاه لبنان، فرضت نفسها بنداً أوّلاً في قائمة المتابعات الرسمية والسياسية الداخلية، تقدّم على كل الامور الأخرى، وجعل من اسباب تعطيل مجلس الوزراء ربطاً بالشكوك بأداء المحقق العدلي القاضي طارق البيطار، امراً ثانوياً، قياساً مع الضغط الهائل الذي أرخته الاجراءات السعودية.
ولفتت المصادر الى ما سمّتها “ليونة مبدئية” لدى مختلف الاطراف حيال استئناف جلسات مجلس الوزراء”، وقالت لـ”الجمهورية”: اذا نجحت حركة الاتصالات الجارية على اكثر من صعيد فإنه من غير المستبعد ان يصار الى انعقاد جلسة للحكومة في غضون ايام قليلة، مشيرة الى “انّ هذا ما توحي به اجواء المراجع السياسية على اختلافها”. ونقلت عن احد المراجع قوله : “امام الضرورات تباح المحظورات”.
على ان الأساس في العمل الحكومي في هذه الفترة، يبقى في كيفية تجاوز أزمة تصريحات وزير الاعلام جورج قرداحي. وبحسب معلومات “الجمهورية” فإن هذه المسألة ما زالت معقّدة، والمشاورات حول هذا الامر جارية على اكثر من صعيد، الا انها لم تصل بعد الى المخرج الملائم.
وقالت مصادر وزاريّة لـ”الجمهورية”: لا بد من النظر الى الاثار البالغة السلبية على لبنان جراء الاجراءات الخليجية التي اتخذت، والتي يبدو انها ستأخذ مسارا تصاعديا ما لم تبادر الحكومة الى اتخاذ الموقف الملائم حيالها. مشيرة الى ان استقالة الوزير قرداحي من شأنها ان تشكل المخرج الذي قد يفتح باب الحوار مع السعودية لإعادة النظر في اجراءاتها، خصوصا ان الحكومة اعلنت انها لا تتبنى ما صدر عنه. ورئيس الحكومة عبّر عن قلق جدي من نتائج هذه الاجراءات على كل اللبنانيين، ومن هنا جاءت مطالبته لوزير الاعلام بأن يراعي المصلحة الوطنية، من دون ان تلقى هذه المطالبة اي استجابة من الوزير قرداحي.
ولفتت المصادر الى ان الوضع معقد لهذه الناحية، خصوصا ان الوزير اعلن انه ليس في وارد الاستقالة، اضافة الى ان تيار المردة وحلفاءه في الحكومة يرفضون هذا الامر، ويعارضون اي خطوة من شأنها ان تذهب برأس وزير الاعلام وحده، ومن دون ان تؤدي الى تعديل في الاجراءات السعودية او تراجع عنها.
وفي هذه الاجواء عبرت مراجع ديبلوماسية وسياسية عن قلقها من صعوبة التوصل الى اي صيغة تؤدي الى مخرج ما لإحياء البحث في الإجراءآت العقابية التي اتخذت وكيفية معالجة الموقف. وما يزيد من نسبة المخاوف حجم الشروط السعودية التي تتجاوز قدرة اللبنانيين على التأثير في تصرفات “حزب الله” وتوجهاته التي تشكل السبب الاساسي الذي دفع بالقيادة السعودية الى اتخاذ الاجرءات التي اعلن عنها، والتي تضامنت معها مجموعة دول مجلس التعاون الخليجي، ولو لم تتدخل بعض المراجع الدولية لتوسعت وكانت اكثر قساوة وشمولية.
التصلب سيد الموقف
في هذا الوقت، كشفت مصادر ديبلوماسية عربيّة لـ”الجمهورية” أن الموقف السعودي من لبنان يَنحى في اتجاه تصاعدي، خصوصاً أنّ المملكة لم تلمس ايّ خطوة تعكس حسن نيّة الجانب اللبناني.
ولفتت المصادر الى فشل كل الوساطات التي جرت مع السعودية لتليين موقفها من لبنان، خصوصا ان الاسباب التي دفعتها الى اتخاذ هذا الموقف ما زالت قائمة، واكدت ان السعودية ترفض اي حوار مع الجانب اللبناني الذي يتحمل مسؤولية الاساءات المتتالية للمملكة من قبل “حزب الله”. ومن هنا ترجّح المصادر فشل اي مسعى جديد مع السعودية، في اشارة الى ما حُكي عن تحرّك سيقوم به وزير الخارجية القطرية.
وعكست المصادر الديبلوماسية استياء سعوديا من عدم مبادرة لبنان الى اتخاذ اي اجراء بحق وزير الاعلام وتصريحاته. وقالت: هذا الاجراء هو اقل ما يجب على الجانب اللبناني ان يقوم به.
وعما اذا كانت استقالة قرداحي ستؤدي الى الغاء الاجراءات السعودية والخليجية تجاه لبنان؟ قالت المصادر الديبلوماسيّة انها لا تملك ايّ معلومات حيال هذا الامر، الا انها اشارت الى ان لبنان في وضع صعب، وهو بحاجة الى كل اشقائه واصدقائه، وعليه واجب ان يقوم اولاً بما يعزز موقعه وحضوره مع اشقائه.
البخاري
وكانت لافتة في هذا السياق تغريدة اطلقها السفير السعودي في لبنان وليد البخاري، كتب فيها: “تَكْمُنُ الأزمةُ تحديدًا في أنَّ القديمَ يُحْتَضَرُ وَالجديدَ لم يُولدْ بعد… وَفي ظلِّ هذا الفراغِ يظْهَرُ قَدرٌ هائلٌ من الأعْراضِ المَرَضِيَّة..! المُفكر الإيطالي أنطونيو غرامشي”.
تشاؤم اوروبي
بدورها، تخوّفت مصادر ديبلوماسية اوروبية مما سمّتها التطورات الاخيرة في لبنان، والتي تبعث على التشاؤم حيال مستقبل الوضع فيه اكثر من أي وقت مضى.
وقالت المصادر لـ”الجمهورية” انه من الضروري والملح بلوغ حل سريع للازمة الناشئة بين لبنان ودول الخليج، معربة عن تخوّفها من اشتداد هذه الأزمة اكثر، ودخولها مرحلة تعقيد اكبر في الايام المقبلة مع ما تحمله من سلبية كبرى على لبنان.
واشارت الى ان ثمة تفهّما للموقف السعودي، الا انها اكدت في المقابل ان استقرار لبنان يبقى اولوية بالنسبة الى المجتمع الدولي.
متابعة محلية
وقد حضر ملف الازمة بين لبنان ودول الخليج في اجتماع وزير الخارجيّة الأميركية أنتوني بلينكن ووزير الخارجية الاماراتي الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان. ويأتي ذلك بالتزامن مع اتهام وزارة الخارجية الاميركية لـ”حزب الله” بأنه “يهتمّ بمصالح إيران أكثر من اهتمامه بمصالح اللبنانيين”، وانه “يشكل أحد الاسباب الرئيسة لتفاقم أزمات لبنان”.
اما محلياً، فقد اعلنت رئاسة الجمهورية ان الرئيس ميشال عون تابع مستجدات الازمة مع دول الخليج، واطلع على التقارير الواردة من البعثات الديبلوماسية اللبنانية في الخارج التي تناولت أوضاع اللبنانيين في عدد من الدول الخليجية، فيما نقل اليه وزير الخارجية عبدالله بو حبيب آخر ما استجد على هذا الصعيد.
وقال بو حبيب: انّ موقف لبنان واحد حيال ضرورة قيام أفضل العلاقات وعدم جواز تأثّر هذه العلاقات بأيّ مواقف فرديّة”، مضيفاً: “ان لبنان يعتبر أنّ أيّ إشكالية تقع مهما كان حجمها بين دولتين شقيقتين مثل لبنان والسعودية لا بدّ أن تُحلّ من خلال الحوار والتنسيق بروح من الأخوة، فكيف إذا كانت المشكلة صدرت عن شخص”. ولفت الى ان “ما حصل في الأيام الماضية يجب أن يقف عند حقّ تغليب المصلحة العربيّة المشتركة وعدم صبّ الزيت على النار، لا سيما أنّ لبنان لم يكن يوماً ولن يكون معبراً للإساءة إلى أيّ دولة”.
واكد أن “لبنان يتطلّع اليوم إلى أشقائه إلى الدول العربية عموماً ودول الخليج خصوصاً كي يكونوا إلى جانبه في الضائقة الاقتصادية التي يعيش فيها شعبه، وأيّ تباعد عنهم ستكون له انعكاسات سلبيّة”.
الصمت موقف
وفيما لوحظ استمرار رئيس المجلس النيابي الاعتصام بالصمت حيال التطورات الاخيرة، قالت مصادر مطلعة “ان هذا الصمت قد يكون موقفاً بحد ذاته”.
وكان بري قد ترأس امس اجتماعاً لهيئة الرئاسة والمكتب السياسي والهيئة التنفيذية واللجان الإنتخابية في حركة “أمل”، وناقش المجتمعون في الأوضاع العامة والمستجدات السياسية والشؤون المعيشية والإقتصادية. واعطى بري توجيهاته للهيئات الحركية ولنواب كتلة التنمية والتحرير للمباشرة بإعداد الدراسات اللازمة وإقتراحات القوانين الضرورية، لا سيما المتعلقة بإلزام الحكومة والمصرف المركزي والمصارف تثبيت وحفظ حقوق المودعين لودائعهم، ووضع التشريعات الكفيلة بإعادتها لأصحابها بحسب المسؤولية والدور، وإسقاط كل عمليات التقادم بمرور الزمن أو غيره، والضغط الجدي مع الحكومة لوضع قانون البطاقة التمويلية موضع التنفيذ.
أضرار الأزمة
يخطئ من يحتسب خسائر الأزمة مع دول الخليج العربي، من خلال ارقام الصادرات والتحاويل والعمالة فحسب، لأن الأضرار يمكن ان تذهب الى مدى أبعد، ومنها على سبيل المثال: مسألة إنجاح التفاوض مع صندوق النقد الدولي لتمويل برنامج انقاذي ينتشل البلد من أزمته العميقة.
صحيح ان الخسائر المرتبطة بالشق التجاري بكل تفرعاته مهمة وحيوية، لأن سوق الخليج يستوعب لوحده نصف الصادرات اللبنانية تقريبا، لكن لا يمكن التقليل من أهمية الاضرار التي قد تصيب ملف الانقاذ. اذ من المعروف ان اي اتفاق مع صندوق النقد لا يكفي مالياً لإخراج لبنان من أزمته، وان التعويل هو بشكل اساسي على الاموال الاستثمارية التي قد تدخل الى البلد بعد توقيع الاتفاق مع الصندوق، فمن المسلّم به ان اهمية الاتفاق مع صندوق النقد تكمن في الثقة التي يمنحها لتشجيع قدوم الاستثمارات. والسؤال هنا، اذا أحجم المستثمرون الخليجيون عن مواكبة الخطة والمجيء للاستثمار في لبنان، من سيأتي؟
كذلك سيفقد لبنان القدرة على اعادة احياء مؤتمر “سيدر” المخصّص لتنفيذ مشاريع في البنى التحتية، لأن حصة دول الخليج، لا سيما المملكة العربية السعودية، في تأمين التمويل للمشاريع الواردة في “سيدر” كبيرة جداً. وبالتالي، فإنّ استمرار الأزمة مع لبنان يعني ان كل هذا التمويل لن يتأمّن.
ولعلّ الامر الاخطر في هذه الأزمة انها لم تبلغ الحد الاقصى بعد، ومن غير الواضح السقف الذي يمكن ان تبلغه الاجراءات. والضرر الاقتصادي والمالي سيشعر به اللبنانيون مع الوقت، وهو ضرر لا قدرة لبلد مُفلس ومنهار، والحكم فيه معطّل، أن يتحمّله.
المطارنة: عيب
في هذا الوقت، اعرب مجلس المطارنة الموارنة عن “الاستياء والحزن البالغين أمام الأحداث المفاجئة والمستغربة التي كانت منطقة عين الرمانة – الطيونة مسرحاً لها”، وأكد “أن خلاص البلاد الوحيد يكمن في تعزيز حضور الدولة الأمني والاجتماعي، وعملها على إحقاق الحقوق وسيادة العدالة، من خلال تحرير القضاء من التسييس والتطييف، وإطلاق يده في التحقيقات العائدة إلى تفجير مرفأ بيروت من جهة، وتلك العائدة إلى الأحداث المشار إليها، من جهة أخرى، بعيدا عن فوضى الإتهامات الشعبوية والإتهامات المقابلة لها، وعن امتهان الكرامات وتركيب الملفات في حق الذين يُستدعون أو يساقون إلى التحقيق”.
وشدد المطارنة، في بيان بعد اجتماعهم الشهري امس، على “أنّ ظروف البلاد المأسوية كانت تقتضي أن تتألف حكومة في منأى عن التسييس، مهمتها الأساسية استجابة الشروط الدولية الموضوعة لمساعدة لبنان، لا سيما البدء بتنفيذ الإصلاحات على كل صعيد. إنه من المعيب حقاً تحوّل التماسك الوزاري تعطيلاً للسلطة الإجرائية وزيادة في شلل البلاد ونزيفها. وإن أبسط موجبات المسؤولية الوطنية الترفع عن الخلافات السياسية والإقبال على العمل الدؤوب تنفيذاً للبيان الذي نالت الحكومة الثقة على أساسه”.
ودعا المطارنة “المسؤولين في الدولة الى الاسراع في ترميم العلاقات مع دول الخليج، وإزالة أسبابها، وعودة حركة التصدير والإستيراد معها. وإلى إيلاء الجانب المعيشي والحياتي للمواطنين الأولوية على ما عداه، بعد تفاقم أزمات المحروقات وما ينسحب عليها بما لم يعد في استطاعة اللبنانيين تحمله وبما يهدِّد الأوضاع الأمنية. ولنا في تفشي السرقات وأصناف الاحتيال والسلب والنهب دليل كبير وخطير على ذلك، بالإضافة إلى نزيف الهجرة”.
كما شدد المطارنة “على الأهمية القصوى لإقامة الإنتخابات النيابية في مواعيدها”، وناشدوا جميع المخلصين من ذوي المسؤولية “الوقوف في وجه أي محاولات تعطيلية لها، وصيانة حق الترشح والاقتراع باعتباره حقا دستوريا من شأنه الإسهام في إحداث تغيير مطلوب في إدارة الشأن اللبناني العام”.