“ماتت” حكومة “عاشت” حكومة، وما زالت السياسة الاقتصادية، النقدية، المالية والإجتماعية تُدار بتعاميم مصرف لبنان. فهل كان من قبيل الصدفة أن تخرج تعاميم مصرف لبنان عشيّة انعقاد الجلسة العملية الأولى للحكومة التي غاب عنها الملفّ النقدي؟ أو أنه جرى تقصّد إعطاء الحاكم “كارت بلانش” لمواصلة إدارته للملفّ، هرباً من تلقّف الحكومة “كرة نار” توزيع الخسائر واستمرار تحميلها للمودعين؟
القرار بتمديد السحوبات من حسابات الدولار على سعر 3900 ليرة لم يكن مستغرباً. إنما الجمع بين التعميم 151 و158 بشكل يسمح للمستفيدين من سحب 400 دولار نقداً، و400 دولار على سعر 3900 ليرة (التعميم 158)، والاستفادة أيضاً من (التعميم 151) وسحب مبلغ محدد من الدولار على أساس سعر 3900 ليرة من غير مصرف هو ما أثار الاستغراب. فهو أولاً يحدد 3 أسعار لسعر الصرف في تعميم واحد وهي: 3900 ليرة، و12000 ليرة، و1500 ليرة في حال تخطت السحوبات من حسابات الدولار السقف المسموح به. وثانياً يكبّر حجم الكتلة النقدية بالليرة اللبنانية ويزيد التضخم، رغم تشديده في التعميم الوسيط 596 (151 معدلاً) على أن عدم رفع سقف السحوبات هو “تدارك لاي نتيجة سلبية قد تتأتى عن أية زيادة حالية للكتلة النقدية”. ثالثاً والأهم، يستمر بتشريع “الهيركات” الكبير وغير المقونن من حسابات المودعين.
هذا من حيث النتائج، أمّا الأسباب وانعكاساتها غير المباشرة فهي لا تقل خطورة. فالهدف الأول والأخير لهذه التعاميم هو “تسريع تخفيض كتلة الودائع بالعملة الأجنبية الموجودة في المصارف، وإجراء هيركات تقدر نسبته بـ 60 في المئة، وانقاذ القطاع المصرفي من دون الحاجة إلى إعادة الهيكلة”، يقول المستشار المالي د.غسان شمّاس. كيف ذلك؟
– تعطي المهلة الزمنية المحددة في التعميمين بـ 4 أشهر، (تنتهي في 31 كانون الثاني من العام 2022) مصرف لبنان فكرة واضحة عن انخفاض الودائع بالعملات الأجنبية في المصارف التجارية، والتي بتقديراته ستصبح 100 مليار دولار.
– هذه الكمية المستثنى منها ما يقارب 10 مليارات دولار التي ستسدد على 5 سنوات لصغار المودعين بحسب التعميم 158، توازي كمية الخسائر في مصرف لبنان.
– يجنب “المركزي” القطاع المصرفي المشاكل مع صغار المودعين الذين يشكلون 80 في المئة من مجمل الحسابات المصرفية.
– يحوّل المركزي الدين المترتب عليه إلى المصارف أي للمودعين على الدولة.
– يكون بذلك أنقذ القطاع المصرفي من دون إعادة هيكلة، وحمّل صغار المودعين هيركات بنسبة كبيرة جداً، بدلاً من حمايتهم.
بحسبة بسيطة يتبين أن إذا كان مودع ما يملك 10 آلاف دولار مقسّمة بين مصرفين بقيمة 5 آلاف دولار، يمكنه أن يحصل من المصرف الأول على 2500 دولار نقداً و2500 دولار على سعر 12000 ليرة أي 30 مليون ليرة. ويحصل من المصرف الثاني على 5000 على سعر 3900 ليرة أي 19 مليوناً و500 ألف ليرة. أي أن مجموع ما يتقاضاه هو 2500 دولار + 49 مليون ليرة وفي حال كان سعر الصرف 17 الف ليرة فان المودع سيحصل فعلياً على 2900 دولار بدلاً من 49 مليون ليرة. ما يعني أن 10 آلاف دولار تساوي 5400 دولار. أي أنه اقتطع من حسابه 54 في المئة. وهذا رقم هائل على كل المستويات وهو معرض للارتفاع مع كل ارتفاع في سعر الصرف.
وبحسب شمّاس فان “التهديد بالتضخم في حال رُفع سقف السحوبات من حسابات الدولار إلى رقم قريب من سعر صرف السوق الموازية أو منصة “صيرفة” على أقل تقدير، غير صحيح. فباستطاعة “المركزي” رفع السقف إلى السعر العادل، مقابل تحديد حجم السحوبات. وبهذه الطريقة لا تزيد الكتلة النقدية بالليرة ويحد من الهيركات على المودعين”.
عوضاً عن أن يُحترم قانون النقد والتسليف وتُتْرك السلطة النقدية لإدارة النقد وحماية القطاع المصرفي والمودع، وظفت السلطة النقدية كل ما أُعطيت من قوة وموارد لتمويل فساد وهدر وحماية فشل الطبقة السياسية الحاكمة. فـ”منذ تشرين الأول من العام 2019 أصبحت السياسات النقدية ليست إلا “ردود فعل” على قرارات (و/أو) تمنيات السلطة السياسية الحاكمة من دون الأخذ بالحسبان حقوق ومصلحة المواطن المودع”، بحسب الباحث الاقتصادي وخبير المخاطر المصرفية محمد فحيلي. فـ”انتقل مصرف لبنان من إعتماد “الهندسات المالية” وامتصاص السيولة من المواطن لتأمين السيولة للسلطة الحاكمة إلى “الهندسة التعميمية” بإصدار تعاميم مربكة ومعقدة تتحول بسرعة إلى مشروع مواجهة وفتنة بين المصرف وزبائنه. فما تمت صياغته في مفردات التعميم الوسيط 597 (لتعديل أحكام التعميم 158) جاء لتثبيت ما أسس له مصرف لبنان في تعاميم سابقة (التعميم 150)، والسلطة السياسية في مشروع موازنة الـ 2021 عن أن هناك:
– دولار سخيف، الموجود في حسابات مكونة قبل تاريخ 2019/10/30 ومستمرة حتى اليوم، وهو فعلياً “دولار مقيم” وتحت الإقامة الجبرية إلى أن تُطلق سراحه السلطة السياسية من خلال خطة واضحة لإعادة هيكلة وجدولة الدين العام تحت مظلة وبرعاية صندوق النقد الدولي، ولا خيار للحكام بذلك.
– و”دولار ظريف” وهو الذي بات معروفاً اليوم بـ “دولار فريش”. وهو فعلياً “دولار غير مقيم” ومحرر بمؤونة تساوي 100 في المئة منه لدى المصارف المراسلة، ولا يخضع لتوظيفات إلزامية (التي أصبحت اليوم 14 في المئة).
وبحسب فحيلي فان “لحماية مدخراتهم من تدهور النقد الوطني، وتفادي المواجهة مع عدة مصارف بسبب الأوضاع التي برزت منذ نهاية العام 2019، عمد عدد كبير من المودعين إلى تحويل حساباتهم من الليرة اللبنانية إلى الدولار، وحصر تعاملهم مع القطاع المصرفي بمصرف واحد. وعندما حط “شبح” الـ “هيركات” واستوطن في قلوب الناس، سارع المودعون إلى بعثرة أرصدتهم في حسابات متعددة. والمحظوظ هو الذي استطاع التوسع إلى مصارف أخرى. واليوم جاء تعديل احكام التعميم 158 ليبارك هذه الخطوات ويكافئها. والكل يعلم أن المحرك الأساسي لهذه الخطوات كان الخوف، وفقدان الثقة وإنعدام الإستقرار على الساحة المالية والنقدية. فسعّر دولار المودعين، على 12 ألف ليرة تحت احكام التعميم 158 وعلى الـ 3900 ليرة تحت أحكام التعميم 151 وتم حرمانهم من حقهم في الحصول على ودائعهم بالدولار الطازج.
مرة جديدة يحمَّل المواطنون عبء الخسائر بدلاً عن المتسببين بها، أي: الدولة، المصرف المركزي والمصارف التجارية. فالمودعون صغاراً كانوا أم كباراً، سيقتطع من ودائعهم أكثر من 50 في المئة بغض النظر عن طبيعة الحسابات والفوائد المحصلة. وغير المودعين سيتحملون التضخم من خلال رفع قيمة الودائع وسعر الصرف بشكل وهمي وزيادة السحوبات منها. ليبقى العنصر الحقيقي الوحيد أن قيمة اللولار تصرف في السوق الحقيقية بنسبة تتراوح بين 20 و 22 من قيمتها أي أن الهيركات في المجمل يبلغ 80 في المئة وهذا ما جرى التحذير منه على أنه Headcut (قص رأس) وليس Haircut.