لم يكن مستغرباً ومفاجئاً قرار مصرف لبنان رفع الدعم عن المحروقات. فمنذ مجيء حكومة حسان دياب المشؤومة بمكوّناتها، والحديث عن رفع الدعم قيد التدوال، كان الجميع يخشى اتخاذ قرار كهذا، لما له من تداعيات كبيرة تنعكس على الشارع فوضى وتفلّتاً. وكانت المعلومات تشير إلى البدء برفع الدعم في أيلول المقبل، ولكن يبدو أنه تمّ تقديمه عن موعده لاعتبارات سياسية أكثر منها حاجة ماليّة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر أنه تمّ الإعلان عن القرار عشية اجتماع مجلس النواب لمناقشة تفجير مرفأ بيروت 4 آب وموضوع الحصانات.
وفي هذا الإطار، إشكاليات عدّة تُطرح، ولا بدّ من الإجابة عنها، وهي: هل يحقّ لحاكم مصرف لبنان اتخاذ هذا النوع من القرارات؟ ما هي تداعيات قرار رفع الدعم؟ وهل سيتأثر سعر صرف الليرة؟
رفع دعم مقنّع
الأصل في موضوع الدعم أن أيّ قرار بشأنه هو قرار مصيريّ ومفصليّ، وهو من اختصاص الحكومة، لأنها هي صاحبة السلطة في هكذا نوع من القرارات. ومع استقالة الحكومة من مسؤولياتها وتقاعسها عن أبسط مسؤولياتها، تصبح الأمور مشرعة للجميع باتخاذ ما يشاءون من قرارات مصيرية. وبالعودة إلى هذا القرار الصادر مساء الأربعاء في 11 آب، نجده عبارة عن إعلان صادر من مصرف لبنان، وليس قراراً رسمياً أو تعميماً يحمل رقماً رسميّاً صادراً أقلّه. وكما ورد في الإعلان: “اعتباراً من الغد (أي 12 آب) سنؤمّن الاعتمادات اللازمة للمحروقات باحتساب سعر الدولار على أساس الليرة اللبنانية تبعاً لأسعار السوق”. فالقرار لم يصرح علناً برفع الدعم، وإنما بتوفير الدولارات اللازمة لاستيراد المحروقات، وفق سعر السوق؛ وبذلك هو رفع دعم “مقنّع”، وليس صريحاً وواضحاً. وبغض النظر عن آليّة رفع الدعم بهذه الطريقة المقنّعة، فإنّ التداعيات هي نفسها مهما اختلف الشكل والأسلوب. وبحسب صياغة القرار، يستطيع أن يتحجّج حاكم مصرف لبنان ويستند إلى قانون النقد والتسليف لإعطاء الشرعية القانونيّة لقراره.
المسّ بالاحتياطي الإلزامي
تحمل مندرجات القرار في طيّاتها التناقض مع فلسفة رفع الدعم التي تقوم على الحفاظ على الاحتياطي الإلزامي وعدم المسّ بحقوق وأموال المودعين، حيث إن مصرف لبنان سيؤمّن كامل الاعتمادات اللازمة للمحروقات كما ورد في الإعلان. وبالتالي نحن هنا أمام احتمالين: أن يتمّ تأمين الدولارات اللازمة من الاحتياطي الإلزامي، وهذا تناقض واضح مع فلسفة وهدف رفع الدعم، أو شراء مصرف لبنان الدولارات من السوق الموازية.
يتضمّن إعلان رفع الدعم الاعتراف الرسمي من قبل السلطة النقدية بسعر السوق، وبأنه السعر الحقيقي المعبّر عن حركة العرض والطلب والتبادلات التجارية. وفي هذا الإعلان نعي رسمي لسعر الصرف الرسمي وسعر المنصّة، وهو أيضاً إعلان فشل للسلطة النقدية المسؤولة عن استقرار سعر الصرف في تحقيق مهماتها ووظيفتها.
دولة “كل مين إيدو إلو”
من المؤكّد أن الانعكاسات الأولى للقرار ستظهر على أسعار المحروقات بالدرجة الأولى، حيث من المتوقع أن يتجاوز سعر صفيحة البنزين عتبة الـ300 ألف ليرة وصفيحة المازوت الـ250 ألف ليرة. ولكن هذه الانعكاسات لن تقف عند هذا الحدّ، إذ إن جميع القطاعات سواء الاقتصادية أو الصحية أو التربوية إلخ… مرتبطة بالمحروقات بالدرجة الأولى، وخاصة المازوت، مما سيؤدي إلى ارتفاع أسعار السلع والخدمات أضعافاً عدّة بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج؛ الأمر الذي يعني مزيداً من التدهور في القدرة الشرائية، وانخفاضاً في مستوى المعيشة لدى الشريحة الكبرى من المواطنين، وانقساماً اجتماعيّاً أفقيّاً كبيراً جداً. وأخطر حالة قد نشهدها هي تفكّك القطاع العسكري والأمني، حين يخلع العسكري البذلة العسكريّة ويتهرّب من الخدمة، وهو أخطر مظهر من مظاهر الانهيار بل هو قاع الانهيار بحدّ ذاته، وتصبح دولة ” كل مين إيدو إلو”.
هل سيتأثر سعر الصرف؟
إن قراءة سطحية للقرار توحي بأن سعر الصرف لن يتأثر طالما أن مصرف لبنان هو الذي سيؤمّن الدولارات اللازمة لاستيراد المحروقات من دون الرجوع إلى السوق الموازية. ولكن الأمر ليس بهذه البساطة. إذا تمّ تأمين الدولارات من خارج الاحتياطي الإلزامي فإنّ هذا سيُحدث مزيداً من الانهيار الدراماتيكي في سعر الصرف.
وعلى فرضيّة توفير الأموال من الاحتياطي، فإن عوامل عديدة ستدفع بسعر الصرف إلى الانهيار المتسارع ودون سقف محدّد له، وهي:
– تضخّم الأسعار الناتج من ارتفاع تكلفة الإنتاج بسبب ارتفاع أسعار المحروقات.
– العامل النفسي والاحتفاظ بالدولارات بين أيدي المواطنين، فيخفّ عرضها، في مقابل ازدياد الطلب على الدولار، لأنه محفظة ماليّة آمنة حاضراً ومستقبلاً.
– اشتداد الصراعات السياسية المحلية واستخدام الدولار كرأس حربة فيها.
– بيئة صالحة للمضاربين في تحقيق أرباح هائلة.
– التطبيقات المشبوهة التي تستخدم في الأجندات السياسية.
السياسة أولاً
في الظروف العادية كان ممكن لهذا القرار أن يكون له آثار إيجابيّة مهمّة جداً جداً على مستوى امتصاص السيولة بالليرة اللبنانية من السوق، ولجمِ ارتفاع الأسعار، ومكافحة التضخم المالي. وهو يؤتي مفاعيله الإيجابية تلك لو ترافق مع خطة إنقاذية حقيقية مكلّلة باستقرار سياسيّ ودعم دوليّ وتوافق وطنيّ، مما سينعكس بالتأكيد على استقرار سعر الصرف الدولار بل تخفيضه. ولكن القرار منفرداً في الحالة هذه، من دون تأمين الشروط الآنفة الذكر، سيؤدّي إلى تعميق الانهيار، مما ينتج فوضى اجتماعية وتفلّتاً أمنيّاً. لذلك، يُشتمّ من هذا القرار رائحة مشبوهة، تندرج ضمن إطار الخنق الاقتصادي والعقوبات الاقتصادية لتحقيق أجندات سياسية أصبحت مكشوفة للقاصي والداني.
إنّ المسار الطبيعيّ لأي حلّ منشود هو تأليف حكومة، وسنبقى نكرّر هذا الكلام عند أيّ حديث عن الحلول، وباقي ما تبقّى يُصبح هرطقات في زمن الأنذال.
النهار
*أكاديمي وباحث اقتصادي *الدكتور أيمن عمر